وضعت كليّة الطب في جامعة هارفرد أخيراً، قيوداً مشدّدة على العلاقة بين طواقمها الأكاديمية والشركات العملاقة في صناعة الأدوية والأجهزة الطبية. وبموجب هذه القيود الجديدة، يمنع على الكلية قبول الهدايا والهبات، كما تقلّص من مداخيلها المتأتية عن الاستشارات العلمية. وكذلك فرضت على العاملين فيها الإبلاغ بدقة عما يتلقونه من أموال جراء نشاطاتهم علمياً. ويتمثّل الهدف المعلن من هذه السياسة في القضاء على التصوّر السائد راهناً حيال النفوذ الكبير للمصالح التجارية في التعليم الطبّي. لقد اتخذت جامعة «هارفارد» قراراً مناسباً. وحان الوقت لتحذو بقية كليّات الطب والمستشفيات الجامعية حذوها في هذا الشأن الحسّاس. نفوذ الشركات أكاديمياً هناك انطباع واسع في عدد من الدول الغربية الكبرى، مفاده بأن الشركات العملاقة في صناعة الأدوية والأجهزة الطبية، تمتلك نفوذاً يصعب تبريره، في الأوساط الأكاديمية. ففي العام 2007، كشف استطلاع شمل رؤساء الأقسام الجامعية ونُشِرَ في مجلة «ذا جورنال أوف ذي أميركان مديكال أسوسييشن» The Journal of the American Medical Association، أنّ ستين في المئة من هؤلاء تحدّثوا عما يشبه علاقات شخصية تربطهم بشركات في هذه الصناعة، تأتي من عملهم كمستشارين علميين فيها. وفي بعض الأحيان، لا تترك تلك العلاقات آثاراً سلبية، بل تبدو ملائمة لدعم العمل أكاديمياً. وفي المقابل، تخرج مجموعة كبيرة من تلك العلاقات من الطريق الصحيح. ففي 2007 أيضاً، أطلقت وزارة العدل تحقيقاً جنائياً ضدّ أربع من أصل خمس شركات تعمل في صناعة الأجهزة الطبية في ولاية نيوجيرسي الأميركية، لأن هذه الشركات استخدمت اتفاقيات استشارية مع جرّاحي تقويم العظام، كوسيلة للترويج لمنتجاتها. ووفقاً لوزارة العدل، كشف هذا التحقيق أنّ من الشائع لدى الجرّاحين أن تُدْفَعُ لهم عشرات أو مئات الآلاف من الدولارات سنوياً، في إطار عقود استشارية، وأن تغْدَق عليهم أيضاً الرحلات السياحية والمكافأت المالية وغيرها من العلاوات الاستثنائية الباهضة. وفي السياق عينه، أجرى السيناتور تشارلز غراسلي من ولاية «أيوا» في الولاياتالمتحدة، تحقيقاً عن تضارب المصالح في عدد كبير من المستشفيات الجامعية والمراكز الطبية الأكاديمية، بما فيها كليّة الطب في جامعة «هارفرد». وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2008، أشار مقال في صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن النتائج التي توصّل اليها غراسلي تفيد بأنّ معظم الجامعات غير قادرة على ضبط تضارب المصالح في كليّاتها. ووصف الأميركي إريك كامبل، الباحث في السياسة الصحية في «مستشفى ماساتشوستس العام» وكلية الطب في جامعة «هارفرد»، هذه الترتيبات الاستشارية بأنّها «إحدى أكبر الخدع على الإطلاق». ويسود تململ في أوساط المجتمع العلمي الأميركي الذي يطالب بضرورة تغيير هذه الصورة. ويرى أن ليس لدى كليّات الطبّ والمستشفيات الجامعية ما تخشاه، إن وضعت مزيداً من القيود لتتحكم في مسار علاقاتها مع شركات الأدوية والأجهزة الطبية. ولعل تجربة «مستشفى ماساشوستس العام» صالحة لتكون نموذجاً إيجابياً في هذا المجال. تجربة في ماساشوستس قبل سنوات عدّة، شعر المشرفون على العيادات العاملة ضمن نظام الرعاية الصحية في مستشفى ماساتشوستس الجامعي، واسمه «يو ماس ميموريال هيلث كير»، بالقلق إزاء المشكلة التي تولّدها هذه العلاقات. ونتيجةً لذلك، أُطلِقَتْ عملية واسعة انتهت في عام 2007، بهدف صوغ إحدى السياسات الأكثر صرامة في العلاقات مع الشركات العملاقة. ومن بين أمور أخرى، حُظِر قبول الهدايا والدعوات الى المطاعم وأماكن الترفيه، مع التركيز على حصر الاستشارات في المسائل العلميّة الفعلية، التي لا تتصل بعمليات التسويق. وكذلك جرى تقليص قدرة ممثلي الشركات في الوصول الى الطواقم الأكاديمية بصورة مباشرة. في بداية تطبيق هذه السياسة المُتشدّدة، سادت شكوك كثيرة. إذ استاء بعض الأطباء من فكرة أنّ قبول كوب تذكاري أو دعوة الى العشاء، تسيء الى ما يصدرونه من أحكام طبية. وقلق البعض الآخر من خسارة دعم الشركات للتعليم الطبي، وأيضاً من عدم إمكانهم البقاء على اطّلاع على آخر التطوّرات في مجال الأدوية والأجهزة الطبية. وبعد 3 سنوات من هذه التجربة الرائدة، كفّ الجميع عن التذمّر. ولم يعد أحد يحزن على خسارة الدعوات الى المطاعم وأماكن الترفيه. ولم يشتك سوى عدد ضئيل من فقدان فرص تعليميّة. بالفعل، بدا معظم الأطباء أكثر سعادة بالنمط الجديد من العلاقات مع شركات الأدوية والأجهزة الطبية، إذ أصبحت محدودة وملائمة أكثر ممّا مضى. وفي السياق عينه، أجرى المستشفى عينه أخيراً استطلاعاً شمل أطبّاءه كلهم، لتحديد مدى دعمهم لهذه السياسة. ففي حين لا يزال بعض الشك موجوداً، أجاب ما يقارب ثلثي من شملهم الاستطلاع بأنّهم يريدون أن يواصل المستشفى دوره الريادي بين مراكز الطّب الأكاديمية في تعزيز هذه السياسة الصارمة. وأشار أحد الأطباء الى أنّ هذه السياسة جعلته فخوراً الى درجة أنّه يسأل المستشفيات التي تتصل به لتوظيفه، عن سياستها المعتمدة في العلاقة مع الشركات الطبية العملاقة. لا يهدف هذا الكلام لتشويه صورة شركات الأجهزة الطبية والأدوية. فحتى السياسات العلمية الأكثر تشدداً، تسمح بنسج علاقات مهمة معها. والمعلوم أن هذه الشركات عنصر حيويّ في البحوث الطبيّة ولقدرة المؤسسات العلمية على اكتشاف طرق أفضل في رعاية المرضى. في المقابل، يهدف التشدّد الى عدم السماح بتشويه الجوانب الجيدة من هذه العلاقات، ما يقوّض صدقية هذا التفاعل في نهاية المطاف. وكخلاصة، يحتاج الطبّ أكاديمياً للاعتراف بأنّ أهداف الشركات التي تسعى منطقياً للربح، مع كل التقدير لجهودها، لا تتلاءم دوماً مع أهداف التعليم والبحث العلمي المستقلّ وتقديم أعلى مستويات الرعاية الصحية بالمرضى. ولم تكن جامعة «هارفرد» أوّل من سار في هذا الدرب، ولكنّها قد تكون الأكثر تأثيراً. ويجب ألاّ تكون الأخيرة. القسم العلمي - بالتعاون مع مركز الترجمة في «دار الحياة»