بعد توقّف دام أشهراً، عاد الجدل حول الخيار العسكري الإسرائيلي ضد إيران ليتصدّر واجهة النقاش من جديد في الولايات المتّحدة، وذلك عبر سلسلة من المقالات التي نشرت الشهر الماضي في العديد من الصحف والمجلات الأميركية الرصينة وتناولت احتمالات قيام إسرائيل بالتصرف منفردة وتوجيه ضربة عسكرية لإيران لمنعها من امتلاك الأسلحة النووية. ومن بين هذه المقالات، أثار المقال الذي نشرته مجلة «ذا أتلانتيك» الأميركية بالتحديد، والتي حمل غلافها لهذا الشهر (أيلول/سبتمبر) عنوان «إسرائيل تتحضّر لقصف إيران: كيف ولماذا وماذا يعني ذلك؟»، نقاشاً وجدلاً واسعاً لدى الأوساط البحثية والرسمية الأميركية على حد سواء. ولا تكمن أهمية المقال الذي جاء تحت عنوان «نقطة اللاعودة» في تسليطه الضوء على الخيار العسكري الإسرائيلي فقط، بل لأن كاتبه هو «جيفري غولدبرغ» الذي كان له دور في تأليب إدارة بوش الابن ضد نظام صدّام بدعوى صلاته ب «القاعدة»، وهو واحد من أهم الكتّاب المؤثّرين في الموضوع الإسرائيلي، ومعروف بصلاته القوية بالقادة الإسرائيليين، الأمر الذي جعل البعض يفهم مقاله على انّه رسالة من الحكومة الإسرائيلية إلى الإدارة الأميركية أكثر من كونه تقريراً أو مقالاً تحليلياً. بعد إجرائه حوالى 40 مقابلة مع مسؤولين إسرائيليين سابقين وحاليين رفيعي المستوى، خرج غولدبرغ في مقاله بسيناريو يقول: «في يوم ما في الصيف القادم، سيقوم كل من مستشار الأمن القومي الإسرائيلي عوزي أراد ووزير الدفاع ايهودا باراك بالاتصال بنظرائهم الأميركيين في البيت الأبيض والبنتاغون لإعلامهم بأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قد أمر للتو ما يقارب المئة أف-15 وأف-16 إضافة إلى طائرات أخرى من سلاح الجو بالتوجه نحو إيران....سيبلّغ الإسرائيليون نظراءهم الأميركيين أنّهم اتخذوا هذه الخطوة لأنّ إيران نووية تشكّل أخطر تهديد على بقاء الشعب اليهودي منذ هتلر، ولأنه لم يُترك لإسرائيل أي خيار آخر..» الرسالة التي يحملها المقال واضحة ويمكن تلخيصها بالقول انّه في حال استمرار الوضع على ما هو عليه في الملف النووي الإيراني، وإذا ما فشلت إدارة الرئيس أوباما في إقناع القادة الإسرائيليين بأنّها مستعدة فعلاً لاستخدام القوة إذا لزم الأمر لمنع إيران من حيازة الأسلحة النووية، فإن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرة في هذه الظروف إلى توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية بحلول شهر تموز/يوليو من العام القادم. وفقاً لغولدبرغ فإن الخطوط الحمراء الإسرائيلية باتت معروفة، نهاية كانون أول (ديسمبر) القادم ستكون المهلة النهائية لتقييم مسار الخيارات غير العسكرية لإيقاف إيران. وهو يصل في مقاله هذا إلى قناعة مفادها أنّ احتمال قيام إسرائيل باتخاذ هذا الخيار قد تعدّى ال50في المئة في هذه المرحلة، وأنّها قد لا تسأل حتى عن الضوء الأخضر الأميركي الشهير عند تنفيذ المهمّة كي لا تحاول الإدارة الأميركية عرقلة هذه الضربة أو إيقافها. ويتمحور الموقف الإسرائيلي الذي تستعرضه المقالة حول «الخطر الوجودي المحتمل» الذي تفرضه إيران نووية على إسرائيل. وعلى رغم أنّ نتانياهو لا يناقش الموضوع من هذا الباب عندما يقول أنّ إيران لا تشكّل تهديداً مباشراً وأنّها لن تستخدم القنبلة النووية ضد إسرائيل في شكل مباشر، لكنه يعتقد في المقابل انّ حصول إيران على الأسلحة النووية سيؤدي إلى تقوية أذرعها في المنطقة وسيحظون حينها بمظلة نووية مما من شأنه أن يقوّض فكرة إسرائيل كملجأ آمن لليهود. ومثله يخشى أيهود باراك أن يؤدي القلق الناجم عن امتلاك إيران أسلحة نووية إلى هجرة الشباب الإسرائيلي، أو إلى عدم قدرة إسرائيل في ما بعد على استقطاب عقولها المهاجرة. وفي المقابل، تتضمن مقالة غولدبرغ العديد من الإشارات عن معارضة مجموعة من المسؤولين رفيعي المستوى في الاستخبارات العسكرية وفي الجيش القيام بضربة عسكرية لإيران معتبرين أنّ كلام نتانياهو عن «الخطر الوجودي» الذي تفرضه إيران على إسرائيل غير مبرر ولا داعي له ويعبّر عن هزيمة ذاتية. ففي مقاله، يشيرإلى خشية بعض الجنرالات الإسرائيليين الذين قابلهم من أن يؤدي الحديث عن «خطر وجودي» إلى نوع من الخطر الوجودي الحقيقي على المشروع الصهيوني الذي نشأ أصلاً لمنع مثل هذه المخاطر والتهديدات ضد الشعب اليهودي». ويعتبر رئيس الأركان الإسرائيلي السابق غابي أشكنازي - خلفه غلانت في المنصب نفسه الأسبوع الماضي، وهو من مؤيدي باراك في الإعداد لخطة هجوم عسكرية قوية على إيران- واحداً من الذين يشككون بجدوى شن الهجوم»، ومثله يذهب الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أهارون زئيفي فركش الذي يعتبر مع عدد من مسؤولي الموساد بأنّ الهدف الإيراني الأساسي من حيازة الأسلحة النووية ليس تهديد إسرائيل وإنما الحفاظ على النظام وحمايته من أي إمكانية للإطاحة به من قبل الولايات المتّحدة الأميركية. يقول كبير موظفي البيت الأبيض رام امانويل موضّحاً الموقف الأميركي لطمأنة الإسرائيليين: «عندما نقول أنّ كل الخيارات مع إيران هي على الطاولة الآن، فهذا يعني أنّ كل الخيارات فعلاً على الطاولة». وفي تعليقه على المقال، يشير باتريك كلاوسن من «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» إلى أنّ الاستراتيجيين الإسرائيليين في شكل عام يميلون إلى الحلول الموقتة، فهي ترضيهم وتناسبهم، وفي هذا السياق فإن تأخير أسوأ برامج عدّوهم لسنة أو سنتين يعتبر بالنسبة لهم أفضل بكثير من عدم فعل أي شيء. فيما يؤكد المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية والسفير السابق لل «ناتو» أيضاً نيكولاس بيرنز، انّه وبعد قراءته لمقاله غولدبرغ المطولة، أصبح أكثر اقتناعاً من أي وقت مضى بأنّ ضربة عسكرية إسرائيلية أحاديّة للمنشآت النووية الإيرانية ستكون كارثة للمصالح الأميركية». ولا يقف بيرنز وحيداً في تشخيصه هذا، بل يدعمه على المستوى العسكري العديد من المنظّرين والقادة العسكريين. ويرى تريتا بارسي (فارسي) رئيس المجلس الوطني الإيراني-الأميركي، ومؤلف كتاب «التحالف الغادر: التعاملات السريّة بين إسرائيل وإيرانوالولايات المتّحدة الأميركية»، أنّ الحكم على الخطاب الإسرائيلي الذي يعتبر إيران تهديداً وجودياً لا يعكس الصورة الحقيقية للموضوع، فالإسرائيليون يتصرفون على هذا النحو لأنّهم لا يحبّذون الحل الديبلوماسي. ولكي تكون الصورة كاملة، يجب علينا الحكم على الأفعال وليس الأقوال فقط، وعندها ستظهر صورة ثانية مختلفة كليّاً. تراهن الباحثة في «معهد الولاياتالمتحدة للسلام» روبن رايت على أنّ أيّاً من إسرائيل أو أميركا لن تقوم بقصف إيران خلال المدّة المذكورة لأنّ العملية الديبلوماسية والعقوبات ستستمر في شكل مكثّف لسنة أخرى على الأقل، وتشير إلى أنّ النقاش يجب أن يتمحور في الأساس حول الكيفية التي يمكن من خلالها احتواء إيران وهو الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من التفكير الجدّي قبل أن يلجأ احدهم إلى ضرب إيران. * كاتب اردني