يودع الجنرال ألكر باشبوغ قيادة أركان الجيش التركي ودموعه تتلألأ. صورة لم تعتدها تركيا من قبل، أن تغمر الدموع عيني أقوى رجل في تركيا وهو يقرأ كلمة وداع خطها بيده، شاكراً زوجته وأولاده على وقوفهم عوناً له في كل ما مرّ به من تحديات المهنة، ومستذكراً من سقطوا من شباب جيشه معتبراً نفسه المسؤول عن مقتلهم وعن عدم توفير وسائل الحماية الكافية لهم. والحقيقة أن ألكر باشبوغ قد يكون صاحب السجل الأسوأ بين سابقيه في منصب قائد الأركان في تركيا. ففي عهده ورد على السجون والمحاكم التركية عدد كبير من منتسبي الجيش العاملين والمتقاعدين، وفي سنتي حكمه فقد الجيش التركي المئات من الشباب في هجمات شنها حزب العمال الكردستاني، وفي معظم وقته كانت الأسئلة تطارده والاتهامات، حتى اشتكى قائلاً: لقد سرقوا مني نصف مدة عملي كقائد للأركان ولم أتمكن من تحقيق أي من الأهداف التي كنت أخطط لها. ولم يحظَ باشبوغ كغيره بوسام الدولة التقديري عند تقاعده، ولعل من حقه أن يفكر ويتساءل بل يعاتب حظه، فسابقه الجنرال يشار بيوك انيط كان قد هم بالانقلاب على الحكومة فعلياً لمنع ترشح عبدالله غل الى الرئاسة عام 2007، وقد فشل في مسعاه فشلاً ذريعاً فلا هو انتصر لعسكره الغاضب من الحكومة وتوجهاتها الإسلامية، ولا هو ظهر بصورة الديموقراطي المتودد من الحكومة، كما أذاقه حزب العمال نصيباً من الهجمات المؤلمة على قواته، لكنه على رغم ذلك حظي بدعم حكومي وأميركي للقيام بعملية برية ضد حزب العمال الكردستاني حفظ من خلالها بعض ماء وجهه، ونال جائزة الدولة التكريمية عند تقاعده، وأكرمه أردوغان بحراسة خاصة وسيارة مصفحة بود أثار المعارضة الأتاتوركية. أما باشبوغ فكان أول من أشار الى ضرورة استخدام السياسة في حل القضية الكردية وألمح عام 2006 عندما كان نائباً لقائد الأركان الى إمكانية إصدار عفو مقنع عنهم، أي انه افسح الباب امام السياسيين والحكومة للعمل في هذا المجال، وكان أول من تحدث عن ضرورة تحديث الجيش وإجراء إصلاحات قوية في آليات عمله، وكان أول قائد للأركان يعلن انتهاء عهد الانقلابات العسكرية في تركيا وأن الجيش مهمته أن يخدم الديموقراطية ويحميها، وهو أول من وعد بطرد أي انقلابي من صفوف الجيش إذا ثبتت عليه أي تهمة، لكنه مع ذلك لم يحظَ بأي مما حظي به سلفه، ولعل وسطيته قضت عليه، فلا هو ظهر بصورة قائد الأركان المتشدد التقليدي لينتزع استرضاء الحكومة، ولا هو استطاع أن يطبق نظرياته الإصلاحية على جيشه، فبقي بين مطرقة الاتهامات المتزايدة وخطط الانقلابات التي لا حصر لها، وسندان رجاله الذين يكذبون ذلك وينكرونه متوقعين منه أن يقف الى جانبهم وليس الى جانب حكومة ذات جذور إسلامية تدعمها جماعات دينية. وبعد كل هذا اضطر لأن يقبل تدخل الحكومة في قراراته لترقية عدد من الجنرالات المتهمين بقضايا انقلابية في آخر أيام وظيفته. إذاً، لا عزاء للوسطية على قمة هرم الجيش التركي، ولعل ألكر باشبوغ يجسد، وبواقعية، نقطة التحول الفاصلة التي يتغير فيها دور الجيش عملياً في تركيا ومكانته وصورته.