عن طريق القصص القرآنية نتعرف على تطوّر التشريعات في الرسالات وعلى تدرج المعلومات في النبوات، فمن بعد سيدنا آدم ذكر القرآن نوحاً عليه السلام كبداية للتاريخ الإنساني في منطقة الشرق الأوسط على الأقل، وبما أن وجود البشر سابق لانتشار الأنسنة، فالفترة الطويلة بين آدم ونوح لا يعرف عنها غير أن إنسانها القديم الذي لم يتعلم الأنسنة قد انقرض ولم يستمر، لتأتي مرحلة نوح فتكتمل اللغة المجردة بأبسط أشكالها فتستحق معه حصول الوحي. اعتمد القرآن بعد آدم على المشخّص عندما أرسل الله رسلاً من الملائكة تُرى بالعين وتُسمع بالأذن، فعندما بعث الله نوحاً كان جواب قومه: «..ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة..»، فجاءت الصيغة ب«الإنزال»، أي أن الملائكة التي كانت تنزل قبل نوح لتتصل بالناس كانت مشخصة وقابلة للإدراك بالحواس، أما عندما ينزل الله الملائكة ولا تُرى بالحواس فإنه تعالى يستعمل صيغة «نزّل»، «تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم..»، والذي يؤكد على أنها أول مرة يأتي فيها الوحي بشكله هذا قوله تعالى: «ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين»، وكي يبرهن القرآن بأن نوحاً هو أول من أوحي إليه من البشر أجمعين يقول تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده..»، وقوله «كذبت قوم نوح المرسلين»، فنوح فرد واحد وهو رسول فلِمَ إذاً صيغة الجمع؟ لأن قبل نوح كان المرسلون ملائكة لا بشراً، والسؤال: ما الذي عرفه الإنسان الموحى إليه في الفترة الممتدة بين آدم ونوح؟ «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من أحدهما..»، ابنا آدم لا تعني بالضرورة أولاد آدم من صلبه، فنحن أبناء آدم بالأنسنة، أما جزئية القربان فتشير إلى مفهوم التقوى الذي أصبح مادياً محسوساً في إشارة إلى بداية نمو الضمير الإنساني بالتقوى ورفض قتل النفس «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك..»، فقتل النفس لم يُحرم إلا في رسالة موسى، فالناس قبلها كانت تتصرف بحسب أعرافها في تقدير عقوبة قتل النفس، وبالموت تعلّم الإنسان دفن موتاه بعد أن كان يتركهم في العراء وذلك عندما قلّد فعلة الغراب، فماذا عن تعلّم اللباس؟ كان عن طريق الملائكة «يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم..»، فذكر الإنزال ولم يذكر التنزيل، بمعنى أن الإنسان أدرك اللباس بواسطة شيء ما قلّده، فكيف اكتشف الإنسان النار؟ بالتعليم المباشر بالتقليد، فالإنسان عاش في مناطق أغطية نباتية، وبما أن الغابات والشجر من الممكن أن تشب فيها الحرائق بلا تدخل من الإنسان، فالأرجح أنها شبت ولفتت نظر الإنسان بما أحدثته من ضوء وحرارة وانتقال، فتعلّم الإنسان منها كيف يوقد النار ويستعملها «الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون». بظاهرة القرابين تشكّل مفهوم التضحية والإيثار في أبسط استيعاب للتقوى تلاه مفهوم العبادات، وفي ظاهرة الامتناع عن قتل النفس تعبير مباشر عن بداية الضمير الاجتماعي فالأخلاق فالوصايا العشر، ومع ظاهرة دفن الموتى ظهر مفهوم اجتماعي يتعلق بالقيام بعمل تجاه الآخر تكون للإنسان وللآخرين فيه منفعة، وفي ظاهرة اشعال النار قفزة معرفية من الإشعال إلى الاحتكاك إلى توليد القوة الميكانيكية، والآن: الإنسان القديم بحصوله على ما حصل عليه اعتقد أنه غرف من قمة المعرفة والاتصال بعالمه الخارجي، لتمر السنون ونكتب عنه ونتعرف على بدائية معرفته، فهل نكون اليوم كإنسان الأمس لمن سيأتي بعدنا؟ ولو كان للعلوم والمعارف الإنسانية مؤشر فأين موقعنا الحاضر منه؟ صغير هو الإنسان مهما وصل وعلا! [email protected]