نشرت إحدى الصحف المحلية في المملكة، ضمن الجدل البيزنطي حول رؤية هلال رمضان لهذا العام، مقالاً لأحد الكتّاب، استشهد فيه بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب». لدعم رأيه في معارضته الاعتماد على علم الحساب في رؤية الهلال. من الملاحظ أنه على رغم أن صفة الأمية ليست من الأمور التي يفاخر بها الناس، فإن بعضاً ممن يدّعي العلم يفاخر بأن المسلمين ما زالوا أمة أمية، ويقول بأن العلة في نص الحديث الشريف والحكمة منه، لم ولن تنتفي البتة، وسنبقى أمة أمية إلى قيام الساعة. إن تفسير الجاهلية بالجهل، الذي هو ضد العلم، تفسير مغلوط، فالمراد من الجاهلية السفه، والحمق، والغلظة، التي كانت من أبرز صفات المجتمع الجاهلي، آنئذ. وإن اتهام العرب بالأمية زمن الجاهلية خطأ تاريخي فادح، فالعرب عرفوا الكتابة قبل آلاف السنين. يقول ابن النديم في «الفهرست»: «إن أول من وضع الكتاب العربي، نفيس، ونصر، وتيما، ودومة، هؤلاء ولد إسماعيل. وإن نفراً من أياد القديمة وضعوا حروف: ألف، ب، ت، ث، وعنهم أخذت العرب. وأن الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة، أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة. وقيل: إنه لما هدمت قريش الكعبة وجدوا في ركن من أركانها حجراً مكتوباً فيه، السلف بن عبقر يقرأ على ربه السلام، من رأس ثلاثة آلاف سنة. وكان في خزانة المأمون كتاب بخط عبدالمطلب بن هاشم، في جلد آدم، فيه ذكر حق عبدالمطلب بن هاشم من أهل مكة، على فلان بن فلان الحميري، من أهل وزل صنعاء». وعرف العرب في الجاهلية كتابة الرسائل والصحف، التي من أشهرها «صحيفة لقيط الإيادي»، الذي أرسل إلى قومه بالجزيرة العربية يحذرهم من الغزو الفارسي، فيقول: سلام في الصحيفة من لقيط إلى من بالجزيرة من إياد. أما أشهر الصحف في صدر الإسلام، فهي «الصحيفة» التي تعاهدت فيها بطون قريش على مقاطعة رهط هاشم وعبدالمطلب. كما ذُكر في «السيرة النبوية» أن سويد بن صامت اليثربي قدم مكة، فتصدى له الرسول، صلى الله عليه وسلم، ودعاه إلى الإسلام. فقال سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم. وما الذي معك؟ فأجاب سويد: مجلة لقمان. وورد أيضاً في المصادر التاريخية أسماء بعض الصحف، منها: «الصحيفة الصادقة» لعبدالله بن عمرو بن العاص، و«صحيفة جابر بن عبدالله الأنصاري». إن العرب كانوا، آنذاك، أمة بلاغة وبيان، وليس أدل على ذلك من المعلقات العشر التي كتبها فطاحل الشعراء، وجمعها الجاهليون لاستحسانهم إياها، فقد كتبت في القباطي بماء الذهب، وعُلقت على أستار الكعبة. والدليل الآخر سوق عكاظ، الذي كان يتبارى فيه المثقفون والشعراء بإنتاجهم الأدبي. وكان لديهم من الفصاحة ما يعجز عنه، الآن، معظم الشعراء والمثقفين. فقد ورد في «السيرة النبوية» أن قس بن ساعدة الأيادي كان يخطب قومه في سوق عكاظ، وأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، استمع لإحدى خطبه. إن الكتابة وأدواتها ومشتقاتها كانت معروفة لدى العرب في ذلك العصر، والدليل على هذا، أن مفرداتها وردت في مواضع مختلفة في القرآن الكريم، منها: القراءة، والقلم، والمداد، والخط، والصحف، والرق، الذي احتل المرتبة الأولى في كتابة المصاحف. وجاء ذكره في القرآن في قوله تعالى: (وكتاب مسطور، في رق منشور). وأطلق ابن سيده على الرّق الورق، واحدتها ورقة. والقرطاس، والسجل، والكتب في قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل في الكتب). قال ابن إسحاق: «فأول الخطوط العربية، الخط المكي، وبعده المدني... فأما المكي والمدني، ففي ألفاته تعويج إلى يمنة اليد، وأعلى الأصابع، وفى شكله انضجاع يسير». والخط المكي هو الذي كتب به القرآن الكريم. فهل يُعقل أن يكون أهل أوائل الكتابة العربية أمة أمية؟ قدّر المحدّثون عدد القرّاء من أهل الصفة، زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ب «400» رجل. وفي «صحيح مسلم» عن أنس قال: «جاء ناس إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم 70 رجلاً من الأنصار، يقال لهم القرّاء». يستدل من هذا أن أعداد المتعلمين من المسلمين فقط، نسبة إلى عدد سكان المدينةالمنورة، آنذاك، لم تكن قليلة. ثم لو كان هذا الوصف – يعني الجهل بالكتابة – مقبولاً، وأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان «أمياً» بهذا المعنى، فإن تلك حال خاصة تدل على معجزة إلهية، وليست ظاهرة عامة تشمل الأمة جميعها. وإذا كانت تلك الصفة خصوصية، فيها تكريم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن فيها حطاً من شأن الأمة حين توصم كلها بهذه الصفة. إن الاستناد في مفهوم الأمية، عند عرب الجاهلية، إلى قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ)، قول يجانبه الصواب. فمعنى «في الأميين» ليس الجهل بالكتابة والقراءة، وإنما العرب الذين لم يكن عندهم كتاب منزل من السماء. ودليل ذلك قول الكثير من المفسرين، منهم الطبري في «تفسيره»: «إنما سميت أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، الأميين، لأنه لم ينزل عليهم كتاب». فالأميون إذن هم العرب، آنذاك، لأنهم لم يكن لهم كتاب. وليس للفظة صلة بالأمية التي تعني الجهل بالقراءة والكتابة. وأما حديث: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»، فيعارضه حديث آخر، عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قوله: «قريش أهل الله، وهم الكتبة الحسبة». والدليل على ذلك، أنه حين كتبت قريش صحيفة وعلقت على جدار الكعبة، قال زهير بن أبي أمية: والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة. إن مفهوم الأمية في هذا الحديث الشريف ربما ينطبق على حالات فردية لأعراب، ولا يمكن أن ينطبق بالنسبة للحضر، لا سيما أن أهل مكة الذين كانت لهم تجارة ضخمة وقوافل تذهب إلى مختلف الأنحاء، تحمل تجارة تقدر أثمانها بعشرات الألوف كانوا يعرفون الكتابة والحساب. * باحث في الشؤون الإسلامية.