قبل أسابيع، صرّح الاقتصادي الفلسطيني منيب المصري بأنّه يعتزم عقد اجتماعٍ شاملٍ في بيروت، يدعو إليه ما لا يقل عن ألف مثقف فلسطيني، ليُطلِعَهم على حقيقةِ الوضع في شأن المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ويطالبَهم بتحمّل مسؤولياتِهم أمام شعبهم. وأوضحَ أنه يريد أيضاً من اللقاء إفهامَ الحركتين بأن المصالحة مطلبٌ الشعب الفلسطيني ككل، وليست رهناً فقط برغبة كلٍّ منهما. وليس من تعقيبٍ على هذه النيّة الطيبة لدى رجل الأعمال المعروف غير أن تتحقّقَ وتنجحَ أهدافُها النبيلة، وهي تفترضُ لدى المثقفين الفلسطينيين قدرةً على أن يكونوا قوةً ضاغطةً على التشكيلات السياسيّة الفلسطينية. وأياً كانت مساحاتُ الوجاهة في هذا الافتراض، فإن انعقادَ لقاء الألف مثقف واطلاعَهم فيه على حقائقِ استعصاءِ المصالحةِ سيمثل فرصةَ لاختبارِه، والوقوفِ على مدى ما يمكن أن يكونَ لهم من دورٍ وفاعليةٍ ضاغطيْن باتجاه إنجاز تلك المصالحة المشتهاة. ويُضاعفُ من أهمية لقاء بيروت، والذي ما زال على مستوى النيّة المحمودة، أنّ منيب المصري الذي يخطط لعقده يضعُه في إطار رغبتِه في تشكيلِ قوىً ضاغطةٍ لدفع حماس وفتح لعقد المصالحة بينهما. إذا قُيّض للمبادرة هذه أن تتحقق، فستمثّل انعطافةً جوهريّةً وشديدةَ الأهميّة على صعيد إحياءِ دورٍ مطلوب، وغائبٍ تماماً، للمثقفين الفلسطينيين تجاه ما يحفُّ أوضاع قضية وطنِهم وشعبِهم من مخاطرَ، باتت مهولةً ليس فقط بسبب العسف الإسرائيلي المعروف التفاصيل، بل قبل ذلك وبعده، بفعلِ التردي الفادح للعمل الفلسطيني العام، الجماهيريّ منه والنخبوي، فباستثناء مقالاتٍ في الجرائد وتعليقاتٍ في الفضائيات، انتقاديّة وغير انتقاديّة، ينشرُها ويُصرّح بها المثقفون والكتّاب والإعلاميون والناشطون الفلسطينيون، لا يلحظُ المراقبُ لأداءِ هؤلاء أيَّ فاعليّةٍ لها أيُّ تأثيرٍ في المجرى العام الذي تذهبُ إليه خيارات رئاسة السلطة الوطنية وخيارات خصومِها في غزة ودمشق. وليس ملفُّ المصالحة غيرُ واحدٍ من ملفاتٍ فلسطينيةٍ تحتاجُ إلى إضاءاتٍ كاشفة، وحيويّةٍ نشطةٍ تبادرُ إليها وبدأبٍ متواصلٍ فاعلياتُ المجتمع المدني، باتجاه إشاعةِ روحٍ نقديّة جسورةٍ ضدّ كل السخف الذي نرى في رام اللهوغزة. وفي البال أن استمرارَ التعذيب في معتقلات الطرفين، معطوفاً على الاعتقال التعسفيِّ الذي ترتكبُه أجهزتُهما، لم يُقابل من تلك الفاعليات، ومنها المثقفون، بغير قلّة اكتراثٍ مستهجنةٍ ومستنكرة، أو أقلّه بإداناتٍ في مقالاتٍ عجولةٍ في جرائدَ وصحافاتٍ محليّةٍ وعربيّة. ويُشار إلى هذا الأمر، وفي البال أنّ تنافسَ أجهزة الأمن حماس في السلطة في قطاع غزة والضفة الغربية في اقتراف الانتهاكاتِ الفادحةِ لحقوقِ المواطنين الفلسطينيين، ومنهم المعتقلون لأسبابٍ سياسيةٍ وتنظيمية، شكل عائقاً ثقيلاً أمام إنجازِ المصالحة، وهو يمثل قبل هذا الأمر وبعدَه فضيحةً فلسطينيّة مُخزية، ربما تُماثِلُها الاستقبالاتُ الاحتفائيّة التي محضها مسؤولون بارزون في أجهزة الأمن في السلطة في جنين وأريحا لمسؤوليين أمنيين وعسكريين إسرائيليين. هو الوضع الفلسطيني العام يزداد خراباً، ويذهب بتسارعٍ مضطردٍ نحو القاع، وليس استعصاءُ المصالحة بين حماس وفتح غيرَ واحد من مظاهر هذا الحال المتمنّى في أثنائِه أن يُطلّ الصوتُ الثقافي الفلسطيني، ويجهرَ بالنقد الصريح واللازم، ويحدّد المسؤولياتِ من دون رهاناتٍ أو حسابات. وأمامَ انعدامِ هذه الفاعلية، تتبدّى أهميّةٌ محمودةٌ للرسالة المفتوحة إلى الرئيس محمود عباس، ووقعها وأيّدها كتابٌ وأدباءُ وناشطون فلسطينيون في الوطن وخارجِه، منهم مريد البرغوثي وزكريا محمد وجوزيف مسعد وغادة الكرمي وإياد السراج، ومن مؤيديها سلمان أبو ستة وليلى فرسخ وإيليا زريق. واعتبرت الرسالةُ تصريح عباس أمام ممثلين للجنة الأميركية - الإسرائيلية للشؤون العامة (إيباك) في الولاياتالمتحدة عن «حقٍّ يهوديٍّ في أرض فلسطين» تفريطاً جسيماً غير مسبوق. وشدّدت الرسالةُ على حاجةِ الفلسطينيين الماسّة إلى قيادةٍ منتخبةٍ ديموقراطياً وقانونياً، مسؤولةٍ وقادرةٍ وملتزمةٍ بإنجازِ حقوق المواطنين الفلسطينيين وتطلعات الشعبِ الفلسطينيّ للعيشِ بحريّة وكرامةٍ وسلامٍ عادلٍ في وطن أجدادِه. ولم يكن متوقعاً من القيادة الفلسطينية النافذة أن تُسارعَ للاستجابة لما طالبتْ به تلك الرسالة المعلنة في تموز (يوليو) الماضي، غير أن ذلك لا يُبَخّس من قيمتها المعنويّة العالية، ولا يُقللُ من ضرورةِ ووجوبِ أن تستمرّ مطالباتٌ أخرى في غيرِ رسالة، على أن يُواكبَها تنشيطٌ للشارع الفلسطيني، وتحفيزٌ له ليضطلعَ ما أمكن بحمل هذه المطالبات، والتعبيرِ عنها جماعياً، في الجامعاتِ والمنتدياتِ ومختلف التشكيلاتِ الأهليّةِ والمدنيّةِ الواسعة. تواصل الهيئة المستقلة لحقوق المواطن نشرَ تقاريرها عن الانتهاكات المريعةِ التي ترتكبها أجهزةُ الأمن لدى حكومتي رام اللهوغزة، ويتوازى هذا الجهدُ المحمودُ مع جهودِ منظماتٍ أهليّة تندرجُ في منظوماتِ المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ المتنوعِ المشاغل، والذي تتعدّد العوائقُ أمامَه وأمامَ فاعليّته وتأثيرِه. ولمّا كان ليس من الجائز، واقعياً وإجرائياً، حصرُ المجتمع الفلسطيني في الفصائلِ والأحزابِ والتشكيلاتِ السياسيّة المختلفة، فذلك يوجبُ الالتفاتَ إلى كلّ الأصواتِ المناديةِ فيه بالتغييرِ والإصلاح، وبانتشال الوضع العام من قيعانِه، ومن رداءاته التي لا يُرادُ لها أن تتوقف. ومن أصحابِ هذه الأصوات شخصياتٌ مستقلةٌ عن الفصائل وخارج أطر السلطة وأطر حركة حماس، تحاول أن تحققَ لنفسِها حضوراً طيباً، ويمكنُ أن تَتَيّسرَ لها فضاءاتٌ لعمل وطني واسع... وإذ يشكل الدكتور مصطفى البرغوثي مثلاً حالة يُشار إليها بانتباهٍ خاص وسط هذه التفاصيل، وإذ يمثل منيب المصري، بدأبِه المشهود، حالةً وطنيّةً مضيئةً أخرى، فإنّ المشهدَ يعدمُ وجودَ حالةٍ مماثلةٍ من بين أهلِ الثقافة والأدب والصحافة، مع كل التقدير لهم ولما يكتبون وينشرون. وقد يعودُ هذا الأمرُ إلى محدوديّةِ الفرصِ أمامهم في إبرازِ رؤاهم وتصوراتهم ومواقفهم، خارج السياقات التقليديّة الضعيفة الأصداء. والمؤملُ من مبادرةِ لقاءِ الألفِ مثقفٍ فلسطينيٍّ في بيروت، والتي يخطط لها منيب المصري، أن تكونَ محطةَ انعطافٍ إلى مشهدٍ مختلف، تتبدى فيه قدرة ملحوظةٌ لدى المثقف الفلسطيني على الضغطِ على السياسيّ والفصائليّ الفلسطينيْين، في رام اللهوغزة وفي كل مكان، من أجل إنجازِ بعضِ المشتهى لإنقاذِ الوطنيّةِ الفلسطينيةِ من مهاوي الاحتضار الذي تَسقُطُ فيه منذ سنوات، لعلّ وعسى.