صدر الأمر الملكي السعودي في 12 آب (أغسطس) الجاري حاسماً في مسألة فوضى الفتاوى العابرة للحدود الشرعية والمكانية، ومحدداً معايير الإفتاء المعاصر، ومنظماً سبل الفتوى والموقعين عليها بحسب تعبير الإمام ابن القيّم - رحمه الله - وهذا القرار السياسي لم يخرج عن مجالات السيادة التي يضطلع بها الحاكم في تصريف شؤون المجتمع بما يصلحه ويحافظ عليه، من خلال توجيه الجهات المعنية باختيار المؤهلين، وهم هيئة كبار العلماء، ومنع المنابر الخطابية من أن تكون إذاعة للآراء الشاذة. وهذا القرار كان أولى أن تُبادر اليه المؤسسات الدينية في العالم كله، ليس بالمنع والتقييد والتخويف بالسلطة، ولكن بالترشيد السليم لجهات الإفتاء، وتوعية المستفتي بما ينفعه في دينه ويحتاج إليه في دنياه، من دون التشهي والتلهي وتصيد الرخص من الأقوال. والناظر في حال المجتمع السعودي المعاصر يجد أن هناك بيئة خصبة جعلت الفتوى تتبوّأ مركزاً محورياً في عقل المجتمع، نظراً الى كونه من المجتمعات الدينية المحافظة، ويزخر بجيش من طلاب العلم الشرعي خريجي الجامعات الإسلامية التي تخولهم إصدار الفتاوى أو نقلها للناس. وصادف ذلك وجود مواجهات فكرية ظهرت بعد تعولم المجتمعات وتفكك الخصوصيات والتعامل مع مستجدات الانفتاح التي اخترقت الأبواب والنوافذ بالجديد من الهويات والثقافات العالمية، كل ذلك والمؤسسات الدينية تتعامل مع تلك الحاجات الملحة والواقع المتغير بالتهوين واللامبالاة، ما أدى إلى بروز حال من الفوضى الاجتهادية مارسها غير المتأهل، ودفعت بالمتأهل للخوض في قضايا مجتمعية بحسمها بالإغلاق والتهديد بالكفر لمن خالفها، باعتبارها الحق الذي لا يحيد عنه إلا هالك، واستغلتها بالتالي وسائل الإعلام المحلية والعالمية بحثاً عن مكاسبها في إثارة الجمهور بالتهويل والمبالغات الماكرة، والسخرية واللمز بتحويل أخطاء المفتين إلى ثابت ديني وسلوك مجتمعي. هذه الحال السعودية لا تختلف كثيراً عن واقع المجتمعات الإسلامية الأخرى التي عانت من فوضى عارمة تضرب أصول الدين أحياناً وليس فروعه، بل ربما يقوم بالإفتاء غير المتأهل بأبجديات العلم، وأحياناً يكون من المجاهيل المتخفين في الظلام خلف الشبكات العنكبوتية ورسائل المحمول، ليحلل ويحرم ويخالف ما اتفقت عليه الأمة، بالضال والشاذ من الأقوال المخالفة للعقل والشرع الحنيف، وليست ببعيدة عنا فتاوى القتل والإبادة لغير المسلمين، وحتى المخالفين من المسلمين كما في العراق والصومال وباكستان وغيرها، إلى فتاوى التكفير للكتّاب والمفكرين، وانتهاء بجواز إرضاع الكبير والتقبيل لغير المتزوجين وعدم إفطار المدخنين في نهار رمضان، وغيرها من بلايا الفتاوى ورزايا المسائل والقضايا. لذا نلمس جميعاً أن واقع الإفتاء اليوم بحاجة ماسة إلى التسديد والترشيد، وضرورة مأسسة الفتوى العامة بالمؤهلين علماً وعدالة، خصوصاً قضايا السلم والحرب، والمواثيق والمعاهدات، والمصالح العامة وشؤون الأمة وقضاياها المصيرية. إن هذا القرار الملزم بضبط الفتاوى لا يعني تمحوره حول الشأن السعودي فقط، بل ان شموله وتعديه سينعكسان على الخارج بالرشد والاعتدال، كون كثير من الفقهاء والمفتين، خصوصاً في الفضائيات العربية هم إما سعوديون وإما من خريجي الجامعات السعودية، فالامتثال سيكون طاعة ملزمة أو محاكاة معلمة. ويمكن أن نقارن بين شيوع الفتوى وتعدد منابرها اليوم وما كانت عليه حال الأمة في أول عصورها، بما يكشف للمتابع عمق الخلل المنهجي في التعامل مع نوازل الناس، وتجاسر همجي في التصدر لها، في حين كان سلف الأمة يعدونه خطراً هادماً للدين. يؤكد هذا المعنى إمام دار الهجرة الإمام مالك، إذ قال: «ما شيء أشد عليّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه في بلدنا، وإنّ أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة، خيار الصحابة كانت ترِد عليهم المسائل وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذٍ يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يُفتح لهم من العلم». (ترتيب المدارك 1/197). وأعتقد أن الفتوى اليوم التي كانت محط نظر فقهاء الصحابة وكبار التابعين وأئمة المذاهب يقلبون فيها الرأي ويجتهدون فيها الأيام، تستطيع أن تسمعها في برنامج فضائي تخرج من مفتيها على عجل ومن دون تقصٍّ، لتبلغ الآفاق وتتلقفها الآذان من دون تمحيص لحقيقتها أو دراية بمآلاتها أو تنزيل صحيح على واقعها، لهذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً، فسئِلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». ويعلل الإمام الشاطبي - رحمه الله - عِظم هذه الرياسة بقوله: «فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سُموا أولي الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)» (الموافقات 5/253). لهذا كان من الضروري اليوم أن تبادر جميع المؤسسات الفقهية في كل العالم الى ضبط مجالات الإفتاء، وتحديد المؤهلين القادرين على شروطها، ومعاقبة المخالفين والتشهير بالمتعالمين، حماية وحفظاً لسياج الدين من الانتهاك. ولعل القرار السعودي يشجع بقية الأنظمة العربية والإسلامية على أن تمارس الدور التوجيهي نفسه بتكليف المعنيين الأكفياء بمهمة الترشيد، لا أن تستغل هذه الظاهرة بالمنع والتهديد وتكميم الأفواه المخلصة الناصحة لدينهم وأمتهم، في مقابل فتح الأبواب والأفواه لكل جاهل ليخوض في أحكام الدين ويهرف بما لا يعرف في قضايا المسلمين الملحّة، فالغيرة على الدين لا تخص حالاً من دون أخرى أو فئة من دون أخرى. * كاتب سعودي