ظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي، أي في وقت لم تكن فيه تمديداتٌ صحية أو مياهٌ حلوة ومياه مالحة وحمّامات ملحقة بالمساكن. والمعروف أن مدينتي مكةوالمدينة لا تقعان على بحر، وأن الماء أصلاً مادةٌ نادرة في تلك البقعة من الأرض، حتى إنه وصلَنا أن نساء المدينة كنّ يخرجن ليلاً خارج المدينة لقضاء حاجتهن. بإيجاز، هي ظروف قاسية ليس فيها شيء من رفاهية العصر، وبشيء من الخيال، ومن ما وصلنا من أدبياتها، نستنتج أن مستوى النظافة العامة بين طيات تفاصيلها وتحقيق النظافة بإمكاناتها التي كانت متاحةً لدى أهلها كان أدنى من ما هو عليه مستوانا الصحي اليوم. وبما أن المعاناة كانت تشمل الجميع تقريباً، فلم يكن موضع شكواهم تفاوت المستوى الاجتماعي ونوعية الخدمات المقدمة في المكان الفلاني عن المكان العلاني، طبعاً لا يُفهم من كلامنا أننا نشكك في صحة شروط الطهارة والوضوء لدى الصحابة ونساء المسلمين في مكة ويثرب في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، والعهود اللاحقة، خصوصاً القريبة منه، ولكن القصد أن الصفحات الطوال التي أفرِدت في فقهنا عن الوضوء والطهارة والاغتسال والاستحمام إنما خُصِّصَت بمبالغة لا تتفق والشروط التي فرضتها الظروف التي عاشها الناس في صدر الإسلام. وتم ترسيخ مثل هذا النوع من «الترف» الفقهي خلال عصور سابقة لصرف انتباه الناس إلى تفرّعات أخرى تشغلهم، وتلهيهم عن التفكير فيما هو أهم وأكبر، والإشكالية أن ذلك لا يزال قائماً في مناهج تعليمنا على أنه جزءٌ أساسي من الفقه الاسلامي، مع أن العبادات - خصوصاً موضوعي الصلاة والصوم - لا تحتاج إلى مثل هذه الاستفاضة والشرح المفصَّل، فقد فُرضت الصلاة - ومعها الوضوء طبعاً - على إنسان العشر سنوات، من ما يعني أن الإنسان منذ هذا العمر قادرٌ على استيعابها بسهولة. لكنَّ ذلك التفصيل لا يزال يجد طريقه إلى عقول أطفالنا كما عشعش في عقولنا حتى أضحى يصيب المرء بداء «الوسواس» بصحة وضوئه وطهارته وصلاته بحالها. وكم صادفتني أسئلة لصديقات ومعارف كنت أستغرب من سذاجتها، ومن النظرة المسطَّحة لدين عظيم! وبمناسبة الحديث عن مستوى النظافة العام الذي أتت بعض المقالات على ذكره بالنسبة إلى دورات المياه في الاستراحات ومحطات تزويد الوقود المنتشرة على طول الخطوط السريعة التي تربط مدن المملكة بعضها بعضاً، هو موضوع بحق يؤلِم المواطن السعودي لأنه يعلم جيداً أنه لا يعيش في دولة فقيرة، فكيف ينتهي بهذا الفقر النظافي بعد الملاحم التي حفظناها عن الطهارة؟ إن كنت في مدينة بودروم التركية، وتريد أن تتجه إلى مدينة أزمير التاريخية يكون أمامك أن تستقل السيارة لمدة أربع ساعات، ومن الطبيعي أن طول المدة يستلزم الوقوف عند محطات الطريق، فهل أصف لكم دورة مياه محطة كان اختيارها عشوائياً؟ «حمام فندق عشرة نجوم»، هكذا قيلت بحماسة وارتياح وباستغراب كبير منَّا، فالمناديل الورقية متوافرة وموزعة، ومسحوق الغسيل السائل وكأن حافظته لم تلمسَّ وليس مجرد بقايا ناشفة، والأدوات الصحية على درجة عالية من الاختيار، والنظافة العامة برائحة عطرة تعمُّ أجزاء المكان وكأن الحمّام لم يستعمل بعد، وهذه دورة مياه تقع في طريق يربط بين مدينتين ليست العاصمةُ التركية إحداهما، ودورة مياه في بلد بحجم السعودية على جانبي طريق مهم يربط المنطقة الوسطى بالمنطقة الشرقية مسدودة بكومة مخلّفات تمنعك من الدخول، وتعميك من قذارتها، فأين ذهبت صفحات الطهارة التي ردَّدْناها نظرياً؟ [email protected]