المؤسسة السياسية في العراق تقدم الدليل بعد الدليل على عجزها الفاضح عن تشكيل حكومة بعد نحو خمسة اشهر على الانتخابات. يتضح ذلك حين تبدأ أطراف رئيسة الحديث، تهديداً ام من باب التمني، عن حل للمشكلة في شكل حكومة يفرضها مجلس الامن عبر قرار يُزعم انه قد يتخذه في جلسته المقرر عقدها الخميس المقبل. التبرير جاهز لمثل هذا «الحل». فالعراق ما زال تحت وطأة الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة، الذي يفوض المجلس سلطة فرض القرارات على الدولة المعنية ولو باستخدام القوة المسلحة. يحدث هذا على رغم أن الرافضين لفكرة حكومة «أممية» يشيرون الى ان الشروط والضوابط التي يحددها الفصل السابع لا تمنح المجلس في هذه الحالة سلطة فرض حكومة على مقاس طالبيها، خصوصاً في ظل قرارات عدة، بدأت بالقرار 1446 في الثامن من حزيران (يونيو) 2004، انهت الاحتلال وأكدت سيادة العراق. في اي حال الفصل السابع يسمح بفرض شكل من أشكال الحكم الاممي المباشر على الدولة المعنية في حال ان الوضع فيها يهدد الامن والسلام في العالم. لكن الأرجح ان الداعين الى التدخل سيصعب عليهم اثبات ان عدم تشكيل الحكومة العراقية حتى الآن يمكن اعتباره امراً يهدد الامن والسلام في العالم! يقال هذا ليس لنفي وجود تدخل خارجي في الشأن الداخلي. فالتدخل يجري على قدم وساق، دولياً وإقليمياً، وهو أمر يتضح في كل خطوة يخطوها العراقيون في اتجاه تشكيل الحكومة - المعجزة وإن كانوا يستخدمون عبارات «لطيفة» لوصف هذه التدخلات (نصائح، مساعدة، دعم والى غير ذلك). يبقى أن وجود التدخل الخارجي شيء وقدرته على حسم شكل الحكومة شيء آخر. أكثر الملوّحين بالحكومة «الأممية» ينتمي الى كتلة «العراقية» التي يتزعمها اياد علاوي، وكانت فازت بالمرتبة الاولى في انتخابات السابع من آذار (مارس) بحصولها على 91 مقعداً في البرلمان. للتذكير، علاوي اصبح في حزيران (يونيو) 2004 رئيساً لحكومة موقتة بقرار أممي لتخلف مجلس الحكم الذي عمل في ظل الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ونصت الترتيبات الأممية – الاميركية وقتها على منح علاوي سلطة اصدار قرارات لها قوة القوانين. حكومة علاوي تلك دامت اقل من سنة وانتهت ولايتها بانتخاب برلمان موقت تلخصت مهمته في وضع مسودة دستور أقر في استفتاء شعبي وانتخب بموجبه برلمان دائم في 2005. منذ فترة يكاد لا يمر يوم من دون ان يطلع علينا سياسي عراقي بتصريح عن امكان تشكيل حكومة بقرار لمجلس الامن. كأنّ الطامحين الى تدويل الازمة السياسية يتطلعون الى مشروع أممي يذكرنا بمجلس الحكم او بالحكومة التي خلفته أو شيء من هذا القبيل. فأصحاب هذه الطروحات لا يوضحون عادة ما يقصدون. مثال على ذلك دعوة وجهها طارق الهاشمي النائب الحالي لرئيس الجمهورية وهو من ابرز قياديي «العراقية». فهو تحدث عما سماه ب «لجنة حكماء» بديلاً عن الحكومة التي يُفترض ان تنبثق من البرلمان المنتخب. والله وحده يعلم المقصود طالما ان الهاشمي لم يوضح كيف تُشكل اللجنة المفترضة ومن يشكلها ومن يوافق عليها تاركاً الباب مفتوحاً امام تكهنات المتكهنين، الأمر الذي حمل البعض على تفسير الفكرة بأنها دعوة الى القيام بانقلاب عسكري! هنا ينبغي التنبيه الى ان اطلاق تصريحات يبقى معناها في بطون قائليها بات امراً شائعاً للتغطية على مناورات لاعبين سياسيين وتكتيكاتهم. أما جوهر المشكلة فيندر ان يوضحه احد. لكن لعل النائب عزت الشابندر الذي ينتمي الى «دولة القانون» (بزعامة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي) يشكل استثناء في هذا المجال. ففي تصريحات نقلتها عنه حديثاً صحيفة «الشرق الأوسط» قال الشابندر بصراحة ان ائتلافه «ليس في وسعه ان يهدي منصب رئاسة الحكومة ل «العراقية»، فهناك نظرة بأن «هذا الموقع للشيعة»، وعلى قيادات «العراقية» ان «تدرك ذلك». طبعاً «العراقية» تصر من جهتها على انها لا تمثل طائفة السنة بعينها، لكن الشابندر ينبه الى ان الواقع غير ذلك. صحيح ان علاوي «شيعي» لكنه «مرشح عن الدائرة السنية، وهناك خمس قيادات سنية ضمن قائمته، هم: طارق الهاشمي ورافع العيساوي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وعمر عبدالستار الكربولي». صراحة، الشابندر لا تخلو من اثارة، إذ يتابع أن «العراقية» على رغم عدم تأييدها لهذه الطروحات «لكن هذا هو الواقع ونحن ننطلق منه لإنهائه، فنحن جدّدنا التقسيم الطائفي عندما عدنا الى العراق في 2003 واليوم ابتلينا به». أخيراً: «المالكي هو الأصلح لرئاسة الحكومة، خصوصاً اذا تحالفت «العراقية» و «دولة القانون» حتى لا تعترض ايران، وأميركا لن تمانع في مثل هذا الحل». (الحق ان اميركا سعت بقوة، وربما ما زالت تسعى، الى تحقيق حكومة بقيادة مشتركة بين المالكي وعلاوي، لكن يبدو انها فوجئت بقوة المعارضة لذلك، فيما فوجئت ايران بتماسك ائتلاف «دولة القانون» حتى الآن وتمسكها بمرشحها المالكي). الشابندر لخص بتصريحه هذا جوهر المشكلة: الحكم يحب ان يبقى بقيادة الشيعة وعلى القيادات السنية ان «تدرك ذلك». قصارى الكلام ان حكومة ترأسها «العراقية» تعني ان الحكم سيكون بقيادة سنية ولو كام زعيمها شيعياً. بعبارة اخرى لا يكفي ان يكون رئيس الحكومة شخصياً شيعياً، بل ينبغي ان يكون مرشحاً عن «الدائرة» الشيعية ايضاً. هنا بيت القصيد. يبقى ان العائق امام تحقيق هذا الهدف يتمثل في الخلاف الشيعي - الشيعي بين «دولة القانون» و«الائتلاف الوطني» الرافض حتى الآن ترشيح المالكي، علماً ان هناك تلميحات الى انه قد يقبل ببديل منه. المشكلة هي ان «القانون» يتخوف من ان اي تراجع من جانبه سيضعفه وقد يحمل «الوطني» على المطالبة بالمزيد. الأرجح ان هذه المصارعة الشيعية – الشيعية ستستمر حتى النهاية والحسم سيكون لمن يصمد أكثر.