تأخذنا الكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق في روايتها «أقاليم الخوف» إلى رحلة بين عالمين، عالم الشرق الذي يشهد الويلات والحروب، وعالم الغرب المتمثل بأميركا، ذلك العالم الذي تملّكه الطمع في خيرات الشرق. فيظهر الغرب متمثلاً بمارغريت، شخصية الرواية الرئيسة التي بَنت عليها الكاتبة وصراع الأديان والحضارات وصراع المطامع والمصالح. تجول الفاروق في فضاء مارغريت المتناقض، مارغريت التي تكلمت بمرارة عن فقدانها والدتها وأخيها في انفجار «شرم الشيخ» الذي نجت منه بأعجوبة، وخرج منه والدها وهو يعاني الإعاقة في قدميه. تناقضات الحب والكره، والحماسة والفتور، وتقلّب المزاج والرغبات، كلّّها سمات جمعتها مارغريت وهي تسرد أحداث الرواية بضمير المتكلم... تصارعت مع الشرق الذي حيّرها، فخاطبته كأنه معشوقها، ثم وصفته بأنه: «شرق الخيال المؤلم... له رائحة الدماء والبارود... شرق الشرّ... شرق الجرائم»، هي الأميركية المسيحيّة من أصل لبناني، التي عادت مع زوجها اللبناني المسلم لتستقر في لبنان الذي غيّر أطباعه، وعاد إلى شرقيته. تبدأ مارغريت حربها الخفيّة على الشرق، فهي تعودت أن ترى المجتمع الشرقي متخلفاً ومتأخراً. نراها مشحونة بالعداء وهي الصحافية المثقفة التي ترصد القضايا القومية، تعمل على تعرية الواقع الاجتماعي ونزوعه المادي والديني. والخلل الذي صاحب مارغريت هو عدم شعورها بالانتماء الأسريّ، ففشلت في محاكاة محيطها، وانتقدت العادات التي يتمسك بها أفراد أسرة زوجها في علاقاتهم في ما بينهم، مما زاد من حنقها على الشرق فلامت الدين وأثره في سلوك الأسرة، وخصوصاً الحجاب المتمثل في شخصية أخت زوجها، المتزوجة من الثريّ المتدين عبدالله، الذي لا يصافح النساء... والذي منح زوجته شهد سلطة المال، ففوجئت مارغريت بذلك، فهي تنافي فكرتها عن النساء العربيات، وتكتشف أن الغلبة لصاحب المال والنفوذ، إمرأة كانت أم رجلاً. إن الولوج في أعماق مارغريت وتحليلها ليسا بالعمل الهين نظراً إلى اضطراباتها النفسيّة التي يمكن وضعها في الإطار النفسي الذي أحاط بظروف نشأتها الأولى. فكما يقول علم النفس: «إن المشكلات النفسيّة والعقليّة في مرحلة الرشد تعود إلى الطفولة». ويظهر هذا الأمر جلياً حين نكتشف أن مارغريت يتيمة حرب، ووالدها بالتبني كان يعمل تاجر أطفال في الحرب الأهلية. ومارغريت وأخوها أسعد كانا آخر طفلين لديه، وقام بتبنيهما حين علم أنه عقيم، فأخذهما وسافر بهما إلى أميركا. نجحت الكاتبة فضيلة الفاروق في الإمساك بزمام شخصية مارغريت الجدلية، المضطربة والمتناقضة، التي بقيت غامضة للقارئ، فكل ما فعلته هو انتقاد الشرق وأهله. فهي تحمل الفكر الغربي ودمها يلفظ شرقيتها. قارنت مارغريت بين الحياة المنظمة في أميركا والفوضى التي تعم بيروت. فرّت مع زوجها من ضوضاء بيروت إلى ماليزيا لقضاء أسبوعين من الراحة. كانت هذه الإجازة حلماً جميلاً وذلك للقائها صديقاً قديماً اسمه «نوا»... مارست معه الحب، وبرّرت خيانتها لزوجها بقولها: «كنت زوجة جائعة تبحث عن المتعة»، ثم انفصلت عنه لتتفرغ لعشيقها وعادت إلى أميركا. وهناك لم تنته مأساتها الشرقية، بل اشتاقت روحها إلى كل ما ساءها وضايقها في بيروت، فترنحت بأفكارها ومشاعرها، وكي لا تمنح بيروت شرف حنينها إليها، جعلتها المتنفس القريب للسياح والمنفيين والهاربين. ولا بد من أن يتراءى للقارئ الصراع النفسي والخواء الروحي والفكري اللذان تتخبط بهما مارغريت... هي التي تذمرت حين واجهها طليقها بأنها تتصرف وفق السياسة الخارجية لأميركا... ترتبط وتطلق وتراقب وتتصرف وفق أطماع خفيّة. دخلت مارغريت في صراعها مع الشرق مدخلاً حساساً حين قالت إن «إسرائيل هي «البعبع» الذي يخيف العرب جميعهم من الخليج إلى المحيط، وبالنسبة إليّ لم تكن أكثر من الإبرة التي يخاف منها الأطفال». اختزلت مارغريت العدو الصهيوني الذي يهدد ويتوعد، ويجتاح الأراضي، ويدنّس المقدسات، ويسفك الدماء في كونه «إبرة». والشرق الذي استفزها هو الذي أفقرته الأطماع الغربية والصهيونية، فأضعفته وفككت أوصاله. وما إن تنتهي مارغريت من قضية خطرة، حتى تلج في قضيّة أشد خطورة وعمقاً، فتنتقد الدين. ونستجلي أكثر ما كان يدور في رأسها من قولها: «فالمؤلم في هذه الحلقة أنني أردت أن أفهم لماذا قتلت عائلتي باسم الدين... وهل للتطرّف والإرهاب والاستعمار دين أو اسم أو هويّة؟». ملّت مارغريت من طبيعة عمل عشيقها «نوا» الذي يتنقل في بلاد الحروب، من أفغانستان إلى كوسوفو وكابول ودارفور وغزّة، فاحتدمت الخلافات بينهما ثم تخلّت عنه. وكانت متأكدة من أن حبه للعدالة وسعّيه إليها سيدمّرانه، وهذا ما نكتشفه لاحقاً. يصل إلى أسماع مارغريت خبر خطف «نوا»، فتعتبر أن الشرق الذي دافع عنه هو الذي خطفه، فسافرت إلى العراق للبحث عنه... تصف لحظة وصولها: «رائحة البارود تنبعث من... كل شيء»... وتقول بحنق: «جرّني «نوا» إلى بغداد كما جرّني إياد قبله إلى بيروت»... كان في انتظارها المصور الصحافي الذي كان يعمل مع «نوا»، واسمه ميتش، وهي لم تأت على ذكره سابقاً. في العراق تتوه بنا مارغريت في متاهات الأماكن والأسماء والخطط والخرائط والاغتيالات، وكل شيء يومئ بموت «نوا»، وفوضى رحلتها مع ميتش مستمرة. فجأة ومن دون سابق إنذار تترك ميتش وترافق شخصاً آخر اسمه عروة، والذي علمت منه أن ميتش قتل برصاصة اخترقت رأسه. ولم تفاجأ بمقتله، فهو جزء من خطة متكاملة تُنفّذ تفاصيلها بدقة. في هذه اللحظة، وبعد طول انتظار، تنجلي شخصية مارغريت الحقيقية، فإذا هي عميلة أميركية سرّية تم تجنيدها على يد «منظمة النسور السوداء» بعد انفجار شرم الشيخ، وأُرسلت إلى الشرق الأوسط في مشروع «حقول البذور الذكيّة» الذي نجح بالنسبة إليها نجاحاً باهراً في بيروت ولكنه فشل في بغداد. حلقات كثيرة متفككة، وأحداث متناقضة تبدأ بالظهور. وصلت مارغريت إلى البروفسور «شنيدر»، وعلمت أنها أصبحت جزءاً من مشروع «حقل البذور الذكيّة»، فوجدت نفسها مع صبيّة رومانية، عرّفت عنها قائلة: «رمتها الأقدار إلى شارع المعاملتين في بيروتالشرقية، وبين ليلة وضحاها تحوّلت من عازفة كمان راقية إلى بنت ليل». لم تأتِ مارغريت على ذكر علاقاتها الجنسية بإياد أو «نوا»، فيتراءى للقارئ أن الكاتبة لا تريد إقحام الجنس في الرواية، لكن المفاجأة التي نتبيّنها لاحقاً، أن مارغريت كانت تسعى في علاقاتها الجنسية إلى أمر مختلف. يظهر في هذه اللحظة صراع مارغريت مع نفسها. محمد يعذبها وهي تشتهيه، أثارتها شراسته واستمتعت بقسوة... هو يغتصبها بعنف، وهي تطلب المزيد بمفردات سوقية. وحين واجهها بأنه اغتصبها، أجابته: «لقد مارست الحب للتو». بعد ذلك اعترفت لمحمد بالمهمة الموكلة إليها، وأنها رئيسة الشبكة، التي وظفت «نوا» و «ميتش» من دون علمهما، وكانت تستخدم نطاف زوجها إياد ليزرع في أرحام نساء ذوات قدرات عالية، بعدما رفض البقاء في أميركا لتطوير أبحاث حول الطاقة النوويّة. ثم أشارت إلى أنها كانت تضع له عقار محو الذاكرة فترة زواجها به، وحين أصبح غير قادر على الانتاج تركته وأقفلت ملفه. ما علاقة عقار محو الذاكرة بمهمتها، والتوقف عن إنتاج ماذا؟ كل شيء بالنسبة إلى مارغريت كان مخططاً له، والأمر الوحيد غير المخطط له ظهور محمد، الذي فاجأها بأنهم كانوا يزرعون في أرحام النساء حيوانات منوية ضعيفة. عندئذٍ تذكرت كلام الحاج عبدالله زوج شهد حين قال لها كلاماً لم تفهم مغزاه وقتها: «أنتم الأميركان تطبقون خططكم على أراضي الناس، متناسين تماماً أن هؤلاء قد يفاجئونكم بخططهم الخاصة التي لم تكن في الحسبان». توقعت مارغريت حكماً بالإعدام لما اقترفته. لكن محمد طمأنها إلى أنهم لا يقتلون النساء... وعللت سبب كل أفعالها قائلة: «كنت أكره... وها أنا أحب اليوم...».استمعت مارغريت في مصر إلى خبر موتها في الإذاعة: قتيلة في بغداد... وأدركت أن تاريخاً نُسف بسطرين. استخدمت فضيلة الفاروق خيالاً مُحلّقاً في رسم شخصية مارغريت في صراعها الداخلي والخارجي، وكأنها تريد أن تقول إن الإنسان هو الحلقة الأضعف والأرخص في عالم الأطماع والمصالح مهما كانت جنسيته أو توجهه أو انتماؤه العرقي أو الديني.