صورة الآخر، في ثقافة ما، هي نتاج لمعايير معرفة وقيمة لهذه الثقافة، وحصيلة للفارق الدال بين واقعتين ثقافيتين، تخضع علاقتهما لشروط تاريخية ملموسة، من الصدام، والتنافس، والاقتباس. فهي تجسد، عبر تمثلاتها المعقدة، الواقع، والموقف من ثقافة الغير، وتمكن - في النهاية - الفرد و الجماعة من كشف وترجمة الفضاء الثقافي، وتحمل مزيجاً من الأفكار والمشاعر، والمواقف والدلالات الرمزية، وأحكام القيمة التي تتبلور على صعيد الممارسة في شكل تدخلات، واحتكاكات، وتنافس، واقتباس، في حالة التدافع والسلم. وفي هذا السياق يسعى حسين العودات في كتابه «الآخر في الثقافة العربية» (دار الساقي، 2010) الى استجلاء صورة الآخر في الخيال العربي منذ ما قبل الإسلام وصولاً إلى القرن العشرين، ولا شك في أن هذه الفترة المديدة تستدعي مسحاً عاماً لتلك الصورة المعقدة، خصوصاً أن الآخر متغير بتغير الأحوال والعصور، من خلال عرض صورة الشعوب الأخرى والديانات الأخرى، كما رآها العرب خلال أربعة عشر قرناً، وكما ارتسمت في ثقافتهم، ودخلت وجدانهم، وأثرت في مواقفهم السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية تجاه هذه الشعوب، وتبيان كيفية تأثرهم بها وأثرهم فيها. ويحاول حسين العودات في كتابه الإحاطة برؤية العرب للشعوب الأخرى منذ القرن السادس الميلادي حتى القرن العشرين، أي منذ أن كان العرب قبائل في جزيرتهم التي كان محيطها هو محيط عالمهم، وفضاؤها فضاء العالم بالنسبة إليهم، إلى أن تسنى لهم إشادة إمبراطورية واسعة، امتدت من الهند إلى شمال إفريقيا وجنوب غرب أوروبا، ودانت لها عشرات الشعوب والأديان في آسيا وإفريقيا وأوروبا أيضاً. وعرض مرجعية مواقفهم من الآخر، وتغير هذه المواقف تجاه الشعوب والأديان والمرحلة التاريخية، ومصالح الطبقة الحاكمة، وما رافق ذلك وتلاه من خلافات وصراعات. ويعتبر أن شعوب الفرس والروم البيزنطيين والأحباش كانت تمثل الآخر الإثني بالنسبة إلى القبائل العربية، وكانت الديانتان اليهودية والمسيحية (وبدرجة أقل المجوسية والصابئية) هي الآخر الديني، ولم تكن القبائل العربية بالإجمال تعرف معرفة جيدة وشاملة غير هذه الشعوب وهذه الديانات، ولذلك كانت نظرتها إليها نظرة الأدنى إلى الأعلى بالنسبة إلى الشعوب، ونظرة الإعجاب بالنسبة إلى الديانات. وقد حمل الإسلام معه فلسفة جديدة، وفرض قيماً وتقاليد وأنماط سلوك جديدة، فساوى بين البشر من اي إثنية كانوا، أي من أي لون أو جنس أو ثقافة، وأكد المساواة المطلقة والعدل، وأتى بمرجعيات جديدة، وكان ودياً، في الغالب الأعم، مع أهل الكتاب، فنظم العلاقة معهم. وما إن بدأت الفتوحات وقامت الدولة الأموية حتى تغيرت المفاهيم والنظرة إلى الآخر، الإثني والديني. ولم تتشكل صورة الآخر في الثقافة العربية صدفة أو عرضاً أو في وقت قصير، فقد أسهم الرحالة العرب والجغرافيون والمؤرخون والتجار في تكوينها، كما أسهم التواصل التجاري والاقتصادي والاجتماعي والحروب وغيرها في رسم هذه الصورة وتثبيتها. ولا شك في أن التواصل الثقافي والحضاري و السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحقق بين العرب والشعوب الأخرى، أنتج تأثيراً متبادلاً، كما كان له دور كبير في تكوين الثقافة العربية والإسلامية وثقافات الشعوب الأخرى. وفي الحالات كلها كانت المرجعية الإسلامية هي المقياس الذي تقاس بموجبه النظرة إلى الشعوب الأخرى، والديانات الأخرى، كما كانت تعاليم الإسلام وسلوك المسلمين هما النافذة التي رأى العرب من خلالها تلك الشعوب. ويرى العودات أن نظرة العرب إلى شعوب الهند والصين، كانت نظرة عادلة نسبياً، لأنهم كانوا يعرفون هذه الشعوب، جزئياً، من قبل، وهي لم تحاربهم أو تتصدى لهم، أما الترك والخزر والصقالبة والجلالقة وشعوب أوروبا الشرقية (شمال اليونان والرومان) فقد كانوا يرونهم شعوباً همجية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شعوب أفريقيا السوداء (شعوب النوبة وغرب أفريقيا) والزنجية (شعوب وسط أفريقيا)، فكانوا يستغربون ويستنكرون عادات وتقاليد هذه الشعوب. وقد نسج الرحالة والتجار والمؤرخون الحكايات والخرافات حول واقع هذه الشعوب وعاداتها، بل حول تكوينها الجسمي، وقدموا صورة عنها لم تكن دائماً حقيقية. وعلى رغم أن الآخر بدأ يصبح أوروبياً منذ الحروب الصليبية، ثم انفرد بهذه الصفة بعد الغزوات الاستعمارية الأوروبية التالية للثورة الصناعية، فإن الموقف من هذا الآخر كان متناقضاً على العموم في الوجدان العربي والثقافة العربية، فمن جهة كان رواد «النهضة العربية» معجبين بالتطور الأوروبي والحضارة الأوروبية وبناء الدولة الحديثة ومعاييرها، ولا سيما منها الحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة وفصل السلطات وغيرها، فضلاً عن التطور العلمي والصناعي والزراعي والعسكري، لكنهم، من جهة أخرى، كانوا يرون أن هذا الآخر الأوروبي عدو يطمع في استثمار البلاد والسيطرة عليها ونهب ثرواتها، وبالتالي هو خطر على أمنها ووجودها. إلا أنه في الوقت نفسه رأت شريحة كبيرة من النهضويين العرب بإمكانية التثاقف مع أوروبا، والاستفادة منها ومن تطورها. ويلاحظ العودات أن مفهوم الآخر تطور، سلباً وإيجاباً، تطوراً كبيراً في الوجدان العربي منذ ما قبل الإسلام حتى عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، وتأثر هذا التطور باتساع الدولة العربية الإسلامية، وامتداد هيمنتها وسيادتها على أراض جديدة وشعوب جديدة في كل مرحلة تاريخية، خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى خاصة، ثم مع تراجعها وضعفها وانحطاطها. وفي ضوء ذلك كان الأخر في فجر الإسلام محدوداً ومعدوداً، سواء الآخر الديني والآخر أو الآخر الإثني، لكنه أصبح عديداً واسعاً، حيث كان الآخر على المستوى الديني هو اليهودي والمسيحي، وفي المجال الإثني الآخر الحبشي والفارسي والبيزنطي، فأصبح بعد الإسلام أتباع ديانات عديدة جديدة، كالبوذية والبراهيمية والديانات الهندية والصينية والديانات الإفريقية. وأما في النطاق الإثني فتواصل العرب المسلمون مع شعوب جديدة، آسيوية وأوروبية، وصينية وهندية وتركية وصقلبية وإفريقية، وكان من الطبيعي أن تتغير صورة الآخر في الثقافة العربية، بحسب الظروف والشروط المحيطة. وكان المعيار القبلي هو المعيار الرئيسي الذي يحدد مضمون صورة الآخر قبل ظهور الإسلام، ثم أضحى المقياس الديني هو المقياس، وأخذ هذا المعيار يتعدد ويتنوع بعد الفتوحات العربية الإسلامية، فطوراً يلعب الدور الأهم، وطوراً آخر يتخلى عن مهمته للمعيار الإثني، وطوراً ثالثاً تحدد المصالح من هو الآخر والموقف منه. غير أن امتداد المرحلة التاريخية التي تناولها الكتاب لم يتح المجال للتعمق أكثر في كل مرحلة، وتبيان الصورة عن الآخر بشكل أكثر عمقاً واتساعاً، لكن العودات تمكن من تقديم صورة عامة ممتدة، وتحديد ملامحها، والمرور على أسباب تكونها وظروف هذا التكون.