أن تستضيف قناة فضائية عربية عالماً وعلماً من عصرنا مثل نعوم تشومسكي مسألةٌ جديرة بالتوقف عندها، والتحية لمن استطاع تحقيقها على النحو الذي تحققت فيه على يد غسان بن جدو في برنامجه الأسبوعي «حوار مفتوح» من قناة «الجزيرة». فهذا العالم اللغوي الذي اشتهر بمواقفه المنتصرة للإنسانية وحقوقها، ومنها الحق العربي، كما اشتهر بتخصصه عالماً من علماء اللغة، انتصر لحق الشعوب في تقرير مصيرها... كما اشتهر بمواقفه من السياسة الأميركية التي وصفها بكونها «سياسة مصالح». ومع أن فرصة حصول هذا الحوار كان ينبغي أن تمتد وقتاً أطول مما حدده وتحدد به البرنامج، حتى لو «خرق» بقية فقرات منهاج ذلك المساء، إلّا أن ما جاء في سياق هذا الحوار لم يكن، في كل الاعتبارات، قليلاً، ولا بسيط المدلول والدلالة من خلال ما جرى الحديث فيه: تشومسكي اليهودي ديناً، والمتحدر من عائلة متدينة، كما قال، يقف ضد كل ما فعلته «اليهودية» في فلسطين باسم اليهود، ويرفض دعوى «الحق اليهودي بأرض الميعاد» الذي يصفه بالزعم الباطل. ففلسطين، كما أكد في حديثه هذا، فلسطينية وليست يهودية، وحق الوجود على أرضها هو لشعبها الفلسطيني من أي ديانة كان. وتطل مقاربة قد تصل الى حد التماثل بين «المشروع الصهيوني» على أرض فلسطين الذي قام على طرد أهلها الفلسطينيين وتهجيرهم منها والمجيء بسكان مهاجرين من كل مكان في العالم ليحلوا محلهم بعد سلبهم أرضهم وممتلكاتهم عليها، وحال «المشروع الأميركي». إذ قامت أميركا الحالية على الهجرة وإبادة السكان الأصليين الذين ادعى «المهاجرون» أن عددهم لم يكن يتجاوز المليون... بينما هم، في حقيقة الأمر، كانوا أكثر من مئة مليون. وقال تشومسكي في هذا الحوار إن أميركا تتحرك بدافع واحد هو: مصالحها... فحيثما تكن تلك المصالح تكن توجهات أميركا باتجاهها. وأضاف: «إن أميركا حين تقول لطرف آخر إنها معه، فهي معه كلاماً فقط، أما المصالح، مصالحها، فهي شأنها الأكبر الذي لا يتقدم عليه شأن أو موقف. وحين أراد أن يأتي بمثل على الانغلاق الصهيوني والتعصب أخذ المثل مما حصل معه: في واقعة منع السلطات الإسرائيلية اياه من دخول الأراضي الفلسطينية لإلقاء محاضرة في جامعة بيرزيت... وقال إن قرار المنع الذي جاء من وزارة الداخلية الإسرائيلية كان يقول: «نحن من يقرر أين ومتى يمكن أن تحاضر، ولست أنت الذي تختار وتقرر». ويتوقف تشومسكي عند فحوى هذا الموقف ليقول جملة ذات مغزى: «كنت قبل هذا قد حاضرت في جامعات إسرائيلية، ولم أسمع من الفلسطينيين شيئاً من مثل هذا الذي سمعت من السلطات الإسرائيلية!». ومع أن تشومسكي مواطن أميركي كامل المواطنة، إلاّ انه يكشف، في هذا الحوار، واقع أميركا، ولكن ليس بروحية تدميرها. وحين قال له محاوره بأنه في كتاب له وصف الإدارة الأميركية بازدواجية المعايير تجاه حقوق الانسان، ردّ عليه تشومسكي بأن أميركا في عموم سياستها لا تعتمد ازدواج المعايير، وإنما هي حيث تكون مصالحها... ومصالحها وحدها. وأضاف إنه إذا كان قد قال شيئاً من هذا (ازدواج المعايير) فهو خطأ منه. يبقى الشخص، تشومسكي، وفرصة وجوده بيننا. فأن يكون مفكر مثله، وبوزنه العلمي وحضوره المناصر لقضايا حقوق الانسان، ومع حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وفي عاصمة عربية مثل بيروت، لهو أمر مهم جداً. وإذا كانت قناة «الجزيرة» هي من دعاه، فما نرجوه ونأمل فيه هو أن تكون قد رتبت لهذه الزيارة برنامجاً أغنى وأبعد مما جاء في «حوار مفتوح» فتكون قد استثمرت هذه الزيارة في مستويين، على الأقل: مستوى الحوار الذي يمكن أن يُعقد له مع مفكرين من لبنان والعالم العربي ومع مؤسسات فكرية معنية بالقضية العربية... ومستوى استثمار هذا الحوار تلفزيونياً للتواصل مع أوسع شريحة من المشاهدين في قضايا هي اليوم في صلب اهتمامهم، وهمومهم، كما لاحظنا من تلك العينة التي حضرت الحوار وشاركت فيه على نحو واضح. فإذا كان تشومسكي في بيروت فلتكن بيروت البرج الذي يطل من نافذته على ما يشغل انسان هذه الأمة من قضايا... هو اليوم ضحيتها في غير مكان من هذا الوطن الكبير. فهل استثمِرت هذه الفرصة كما ينبغي، ونأمل؟ نتمنى أن يكون الأمر كذلك... فتشومسكي ليس بيننا، وإن كان مع قضايانا، كل يوم.