يُقال إن السيد محمد حسين فضل الله سئل في مقابلة له عما يمكن أن يؤبّن به نفسه بعد وفاته. ولم يُنشر جوابه إلا حديثاً وبعد وفاته: من الممكن أن أقول: «إنّ هذا الإنسان عاش حياته منفتحاً على الرّسالة منذ أن فتح عينيه على الحياة، وعمل على أن يتحرّك في خطوطها حتى في بداية طفولته، أو في مقتبل طفولته وشبابه، وعانى وتألّم في درب الرّسالة، وكان يحاول أن يكون صادقاً وأن يكون مخلصاً، وربما كانت النّفس الأمّارة بالسّوء تأخذ عليه ما يأمله، ولكنّه أكمل الرِّسالة بحسب طاقته، وواجه الكثير من العنت والتعسّف مما يواجه الرّساليّين». «حاولوا أن تفهموني جيّداً، فإذا كان البعض لم يفهمني في حياتي، فلأنّ التّهاويل والانفعالات والتّعقيدات قد حجبت وضوح الرّؤية. ولكن عندما يغيب الإنسان عن السّاحة، ويشعر الآخرون بالأمن من تعقيدات وجوده عليهم، فإنّه يمكن أن يفهموه أكثر، وأن يستفيدوا من تجربته أكثر». وفي ذلك تصوير لألم كبير ومعاناة، وأناس لم يفهموه وأحسوا بالأمان بعد غيابه. لكن الأهم أن هنالك «الكثير من العنت والتعسّف» واجهه في حياته. والمؤسف أن المشار إليهم قد اكتسبوا حصانة جديدة الآن، وتنفسوا الصعداء. لكن السؤال سيبقى، وينبغي له ذلك، حول من مارس هذا «العنت والتعسّف» بحق السيد؟ ما دامت الحاجة ملحة إلى فقهاء يقومون بالإصلاح من داخل الجدار العازل، فإن الإحساس بافتقاد السيد محمد حسين فضل الله كبير. فعلى رغم بعدي عنه في الأيديولوجيا، إلا أن الاستفادة منه مفتوحة للجميع في المنهج وإرادة التجديد والتحديث، وفي طبع الاعتدال والتسامح، والعقل. مَن تابع نشرته الأسبوعية «بينات»، ومحاضراته الأسبوعية - يوم السبت دائماً - في دمشق قرب مقام السيدة زينب، يتعلق به باحترام شديد لا تنقص منه الفوارق في مستوى القياس والمرجعية. «المرشد الروحي لحزب الله»، هكذا تعرفنا إليه من الخارج أولاً، ثم لاحظنا أن هذه الصفة قد اختفت من التداول. وأشيع أنه قد استُبدل في شكل من الأشكال ب «الولي الفقيه»، وأصبح المرشد والقائد الفعلي مركزاً من خارج لبنان و«العروبة». والقضية كلها في دوائر الصمت و«التقية»... لكن السيّد لم يتوقّف عند إحباطه، وبقي مواظباً على الحَفر بدأب، مركّزاً على التغيير في الأساسات. لم يتخلّ عن دوره الفقهي، واستمر بالفتوى، ليحاول أن يؤسس لطريقة جديدة في التفكير الإسلامي، تقوم على تحكيم العقل والمرونة، والاعتماد على إنسانية الإنسان قبل إسلامه أو مذهبه، من دون التخلي عنهما أبداً. في المنهج العام، سمعته يتحدث في مدينة حمص السورية في محاضرة كررها في عدة أماكن - من دون تكرارٍ غالباً - حول «الرفق» والحب واللين وتجنب العنف والقسر. وكان يبدو أحياناً وكأنه شاعر بمقدار ما هو فقيه أو مفكر سياسي. لكن من أكثر ما أعجبني في السيد جوابه عن سؤاله، في محاضرة متأخرة «كيف يواجه الشباب مسألة الأصالة ومسألة التغريب؟ هل يواجهها بطريقة تلتهب حماساً ليهتف: نحن مع الأصالة وضد التغريب؟ أم إن عليه أن يقف منهما وقفة مدروسة تحاول أن تدرس العناصر الحية هنا والعناصر الميتة هناك والعناصر التي تغني إنسانية الإنسان وحياته أو تفقرها؟ لأن القضية ليست انفعالاً ننفعل به وليست انتماءً طائراً... ولكنها حياتنا». «... عندما نتحدث عن الأصالة فإننا لا نتحدث عن ماضٍ يحتضنه الزمن فيما يسمى تاريخاً، فقد لا يحمل الماضي في بعض مواقعه وخطوطه وتطلعاته شيئاً يتأصل الإنسان فيه. بل قد يكون شيئاً في السطح وفي الشكل. وقد نجد في الحاضر كثيراً من عناصر الأصالة، من خلال أن الإنسان يجد فيها نفسه كائناً حياً يتجذّر في مسؤوليته في الوجود. وهكذا عندما ننطلق في كلمة الغرب والتغريب كموقع للمكان أو إشارة للجغرافيا، فإننا نجد في الغرب قيماً إنسانية لا نجدها في الشرق، وقد نجد في الشرق قيماً سلبية منحطة لا إنسانية لا نجدها في الغرب، لسبب بسيط جداً، وهو أن الفكر لا وطن له. الفكر يستوطن مكاناً لأنه انطلق في وعي إنسان مفكر عاش في هذا المكان، وجاءت الظروف الموضوعية لتفرضه واقعاً في هذا البلد أو ذاك. ليس هناك وطن للفكر، وليس هناك قومية للفكر. الفكر أعلى من كل التاريخ، وأعلى من كل الجغرافيا. الجغرافيا تكبر بالفكر، والتاريخ يكبر به، وبه يتقدس المكان ويتقدس الزمان، والفكر لا يتقدس بالزمان ولا بالمكان». «قضية التغريب هي قضية خط فكري تتحرك فيه الحضارة التي عاشت في الغرب وانطلقت منه، وبذلك يكون التغريب خطاً في الفكر والنهج. وليكون حركة في الحضارة، وتكون الأصالة عمقاً في الإنسان وفي الحياة، لتكون الجذر الذي يقف الإنسان والحياة عليه». وليس في ذلك موقف واضح فحسب، كان يمكن الإسلاميين والقوميين فينا أن يتعلموا منه الكثير، بل طريقة للتفكير حيوية تستند إلى العقل أولاً، ثم على الواقعية وإرادة التغيير والتجديد والتقدم. فهو على رغم تكراره لألفاظ «أمريكا» و«إسرائيل» و«المخابرات بأنواعها» كثيراً، لم يخلط بين ذلك وحضارة الغرب والموقف الإنساني ومضمون الحضارة الواحد. وفي ذلك تمرين على الاستمرار في أداء الدور السياسي والمبدئي كما يراه، من دون الانزلاق إلى التعصّب والتأخر، لأن ذلك يعني خسارة المعركة الأكبر، في كونها «الجهاد الأكبر». لم يكن مؤيداً لما أدخلته العادات والتقاليد من مظاهر وأشكال للتديّن. لكنه كان يؤكد على ضرورة الرفق بالناس وما اعتادوا عليه في مئات السنين، وعلى أن انتشار الوعي والعقل يمكن أن يؤسس لحالة جديدة أكثر تركيزاً على جوهر الإنسان. أو هكذا كنت أفهمه، أنا الموجود في بيئة فكرية مختلفة. فكان «إنسانياً» كبيراً، و«ليبرالياً» و«ديموقراطياً» على طريقته بنظر البعض، و«علمانياً» أيضاً مع وضعه الكسرة تحت العين بدلاً من الفتحة فوقها، و«عقلانياً» أولاً، وأستاذاً في فن التفكير. لكن السؤال الأهم يبقى حول هوية الذين أصابوه بالعنت والتعسف، وجوابه واجب غيرنا من الأقربين إليه. بالنسبة لنا غيابه خسارة أخرى، وفي الهامش، لأنه جاء بعد غياب قريب لنصر حامد أبو زيد، وقبله محمد عابد الجابري. ولكل منهم ميدانه الخاص، لكنهم جميعاً من دعاة العقل والتجديد، مهمومون بالواقع المتخلف، ومعتمِدون ل «فكر» العالم، كما قال الياس مرقص. * كاتب سوري.