في دراسة نشرها قبل سنوات في الملحق الأدبي لصحيفة «لوموند» الفرنسية، يروي الكاتب فيليب سولرز كيف حدث في 28 تموز (يوليو) 1830 ان «رفع شعب باريس خلال تظاهراته، رساماً شاباً في الثانية والثلاثين من عمره على الاكتاف» واصفاً في طريقه كيف كتب ذلك الرسام متحدّثاً عما حدث: «لقد عشنا ثلاثة ايام وسط البنادق وطلقات الرصاص، ذلك ان العراك كان مشتداً في كل مكان. والمتجول البسيط مثلي، كان يجازف، لا اقل ولا اكثر من غيره، بأن يصاب بطلقة تقتله، مثله في هذا مثل اولئك الابطال المرتجلين الذين كانوا يهاجمون العدو ولا يملكون من السلاح سوى قطع حديد ربطوها بعصي المكانس». ولاحقاً في تشرين الاول (اكتوبر) التالي، كتب الرسام نفسه يقول: «اما عن الكآبة، فمن المؤكد انها تزول بفضل العمل. ذلك انني لتوّي شرعت في تحقيق موضوع حديث، نوع من «متراس»... من الواضح انه أعاد الي مزاجاً طيباً». ويفيدنا سولرز ان ذلك «المتراس» لم يكن سوى لوحة ستدخل التاريخ من بابه الواسع اسمها «الحرية تقود الشعب»، يعتبرها سولرز، الى جانب لوحة «غيرنيكا» لبابلو بيكاسو، اعظم نجاح حققه الرسم التاريخي على الاطلاق. اما صاحب «الحرية تقود الشعب» فهو الرسام الفرنسي اوجين ديلاكروا، الذي لئن كان في ذلك الحين اشتهر بلوحاته التاريخية، لا سيما بأعماله الاستشراقية، فإن الرومانسية كانت طاغية على اعماله تلك الى درجة استغرب معها الناس ان يكون رسم موضوعاً سياسياً معاصراً في تلك اللوحة. قبل ان يرسم «الحرية تقود الشعب» بسنوات ثلاث كان ديلاكروا رسم واحدة من لوحاته التي ستحظى بأكبر قدر من الشهرة: «موت سردانابال». وسيكتب مؤرخو فنه انه لم يكن من قبيل الصدفة ان يرسم «موت سردانابال» في ذلك الزمن العاصف والمملوء بالانتفاضات السياسية المنطلقة من عملية البحث عن الحرية وضد الطغيان. وبالتالي لم يكن من قبيل الصدفة ايضاً، ان ديلاكروا، وبعد انتفاضة اهل باريس (التي يحدثنا عنها شيخنا الطهطاوي بوفرة في كتابه «تخليص الابريز في تلخيص باريز»)، جعل المرأة التي نجدها مقبوضاً عليها في «موت سردانابال» تكاد تكون هي هي، تلك التي انعتقت هذه المرة، وتقود الشعب في ثورته وقد اتشحت بمسوح الحرية حاملة العلم محرضة الشعب على الثورة والسير قدماً نحو الانعتاق. والحال ان هذا الامر كان جديداً تماماً في ذلك الحين: فمن غير ديلاكروا، كان في امكانه ان يخرج بالمرأة من اقبيتها والمطابخ لكي يجعلها - على تلك الشاكلة - تعتنق القضايا الكبرى؟ «الحرية تقود الشعب» تعتبر اول لوحة سياسية حقيقية حديثة، بحسب ما يؤكد لنا الباحث جيل نيريه، الذي يبهره، كما يبدو، كون ديلاكروا رسم بطلته وهي تسير «فوق بساط مكون من اجساد الموتى، جارّة وراءها الجماهير الغاضبة». كما يسحره ان يكون ثدي هذه المرأة الخارج من ثوبها رمزاً للأم الحنون التي تغذي الشعب والجمهورية، معبرة عن قيم الجمهورية الاجتماعية والتقدمية. بالنسبة الى اوجين ديلاكروا، يمثل رسمه هذه اللوحة، لحظة قطع لديه، بل لدى النزعة الرومانسية كلها. اذ بعدما كانت هذه النزعة تستلهم المواضيع التاريخية حتى حين تعبر عن افكار حديثة ومعاصرة، ها هي الآن - مع ديلاكورا، سيد الرومانسيين - تستلهم الحياة المعاصرة في شكل مباشر، وصولاً الى الغوص في السياسة. كتب ديلاكروا الى اخيه، الجنرال في الجيش، معلقاً على رسمه لتلك اللوحة بقوله: «اذا كان لم يقيّض لي ان احارب في سبيل الوطن، فإنني على الاقل سأرسم من اجله». ويقيناً ان هذه العبارات انما تعتبر صورة للشكل السياسي الذي سيتخذه فن الرسم منذ ذلك الحين. ومع هذا، على رغم ان ديلاكروا يقول انه «لم يقيّض» له ان يحارب «في سبيل الوطن»، فإنه كان في الحرس الوطني، وعضواً محارباً. وهو موجود، بهذه الصفة في اللوحة. فهو الشخص الممتشق البندقية معتمراً قبعة عالية الى يمين حاملة العلم، مع العلم ان الفتى المرسوم الى يسار المرأة، ممتشقاً مسدسين في الوقت نفسه، والذي من الواضح انه في الاصل قارع طبل في الفرقة الموسيقية للحرس الوطني، انما هو الاصل الذي سيبني عليه فكتور هوغو، لاحقاً، شخصية «غافروش» في روايته «البؤساء». وهنا، لا بد من التذكير بأن غويا وجيريكو وغرو، الفنانين الذين عاصروا ديلاكروا، او تلوه، تأثروا كثيراً بهذه اللوحة الى درجة انهم شكلوا، على منوالها بعض افضل لوحاتهم، ما يعني ان «الحرية تقود الشعب» كانت نقطة التأسيس في هذا المجال. اما اللوحة نفسها فإنها من بعدما انجزت، اشتراها الملك لوي - فيليب مقابل 3000 فرنك، لكنه آثر ألا يعرضها على الملأ. واضح ان ديلاكروا استقى تفاصيل لوحته من مشاركته المباشرة في تلك الاحداث الثورية التي يصورها. وهو كان خلال الشهور التالية مباشرة للأحداث، رسم الكثير من الاسكتشات والتخطيطات التمهيدية، ومن اهمها محفورتان عنوان اولاهما «المحاصَرون» والثانية «المحاصِرون» وفيهما رسم الكثير من الشخصيات التي تقود القتال، كرّاً وفرّاً، بين الثوار ورجال الملك. وهو عاد واستخدم معظم التخطيطات في اللوحة، جاعلاً مركز هذه الاخيرة تلك المرأة حاملة العلم. والحال ان المرأة تتخذ هنا، وحدها ومن دون الآخرين، بعداً رمزياً واضحاً، فيما الآخرون واقعيون تماماً. والمرأة مستقاة بالطبع من كل تلك «المادونات» اللواتي تحفل بهن الرسوم الدينية، منذ عصر النهضة، حيث يعمد الرسام الى تحميل سمات امرأة معينة، كل ضروب المعاناة الملحمية التي تسيطر على مناخ اللوحة وموضعها. حاملة العلم هنا بطلة من النوع الكلاسيكي: البطولة التي يبحث عنها الشعب لتقود خطاه. ما يعني ان ديلاكروا عرف كيف يمزج في بوتقة واحدة بين المعاناة والبطولة لأن هذه الاخيرة تفترض تلك. وهذا ما يفسر بالطبع كونه اختار امرأة سبق لجمهوره ان شاهدها في لوحات سابقة له، لتعبر عن ذلك البعد المزدوج، اذ من الواضح ان رجلاً مرسوماً مكانها ما كان يمكنه ان يولد الاحساس نفسه لدى المشاهدين عندما رسم ديلاكروا، لوحته المؤسسة هذه، كان، كما اشرنا في بداية ثلاثينياته، وكان قد ثبّت لنفسه موقعاً كبيراً في الحياة الفنية الفرنسية، بعدما انجز في عام 1815، دراسته ليدخل في محترف الفنان بيار - نارسيس غيران، ويبدأ بنسخ لوحات رافائيل وروبنز المعلقة في متحف اللوفر، ثم دخل مدرسة الفنون الجميلة. اما لوحته الاولى التي رسمها في شكل احترافي فكانت «عذراء الحصاد»، وكان بالكاد تجاوز العشرين من عمره. غير انه في تلك الآونة وقع تحت تأثير لوحة «مركب ميدوزا» لجيريكو، وسيحقق بعض اهم لوحاته التالية محاكاة لها. كما ان «الحرية» نفسها لن تكون بعيدة من اجوائها. المهم ان بدايات ديلاكروا تلك تبعتها سنوات من العمل المستمر والشاق، سيطرت فيها النزعة الرومانسية عليه وراح يستقي مواضيعه من الماضي، لا سيما من المشاهد التاريخية والمعارك. وخلال الفترة التالية بدأت اهتماماته السياسية تتزايد، وكانت «الحرية تقود الشعب» ذروتها، غير ان ذلك لم يكن كل انتاجه اذ سرعان ما نجده يرسم شكسبيرياته، والمشاهد الادبية، ثم اللوحات الاستشراقية، ما جعله، وحتى رحيله في عام 1863، اكثر رسامي فرنسا تنوعاً وتأثيراً على الاطلاق. [email protected]