لخص خبير أرجنتيني الوضع في كوبا وفنزويلا والبرازيل والأرجنتين بالآتي: ربما تضررت السياحة في كوبا بسبب العقوبات الأميركية، لكن الحكومة الكوبية مصممة على المضي قدماً. ربما تسير ببطء، لكن حتماً بالاتجاه الصحيح. أما فنزويلا، فإنني أوافق وأؤيد سياساتها تجاه الفقراء وتوفير مستلزماتهم الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والحاجات الأساسية، لكني لا اعرف ماذا يحصل لجهة تأميم قطاعات النفط والغاز والطاقة وقطاعات أساسية لها علاقة بالاستثمار. ويضيف الخبير البارز في شؤون أميركا الجنوبية، ان الرئيس لولا داسيلفا قدم «الوصفة السحرية» بجمعه مساعدة الفقراء مع دمج الطبقات الدنيا في العملية الإصلاحية من دون ان يصطدم مع الطبقة العليا ورجال الأعمال والمستثمرين، فكان «الجسر» بين الشرائح الاقتصادية. أما في الأرجنتين، فإننا نسير في الاتجاه الصحيح بعمل جدي وشاق. ربما لا تظهر النتائج بسرعة، لكننا نستثمر في المدى الطويل وسنرى الثمار في العقود المقبلة وفق «رؤية استراتيجية». يقترب قول الخبير من الواقع الى حد كبير، لكن ما ينقصه ملاحظة قاسم مشترك بين كل هذه الدول: ان اختلفت أوضاعها الداخلية، فإن مواقفها السياسية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط متشابهة وتصل في أمور محددة الى التطابق. وأظهرت جولة الرئيس بشار الأسد، وهي الأولى لرئيس سوري الى هذه القارة، مدى التأييد الذي تحظى به القضايا العربية. بدا واضحاً، من خلال متابعة تصريحات الرئيس الأسد ومحادثاته ولقاءاته في الدول الأربع، ان الجولة رمت الى ثلاثة أهداف: سياسي، اقتصادي. وبعد ثالث له علاقة بالجالية السورية في القارة الأميركية. يتعلق البعد الأول بالمواقف السياسية لهذه الدول، ذلك ان قادتها أعلنوا في مناسبات عدة تأييدهم الموقف العربي في الصراع العربي - الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف، إضافة الى تأييد كامل لا لبس فيه لاستعادة سورية مرتفعات الجولان المحتلة. كما أظهرت هذه الدول استقلالية في القرار السياسي على رغم كونها «الحديقة الخلفية» لأميركا. وقدمت الكثير من الأدلة على ذلك، خصوصاً في السنوات الأخيرة. إذ بعدما كانت جزءاً من رابطة الدول الأميركية التي تضم الولاياتالمتحدة وكندا، أسست رابطة «اوناسور» التي تضم فقط دول أميركا الجنوبية، ثم أسست قبل فترة رابطة «ميركوسور» لتضم الأرجنتين والبرازيل والأورغواي وفنزويلا ودولاً أخرى بصفة مراقب، لتحرير التبادل التجاري في ما بينها مع تهميش للرابطة الأميركية الأوسع. كما ان البرازيل ساهمت مع تركيا في الوصول الى الاتفاق الثلاثي مع إيران في ما يتعلق بالبرنامج النووي السلمي، بل إنها التزمت ما وعدت به عندما صوتت (مع تركيا) ضد العقوبات الاقتصادية التي فرضت في مجلس الأمن على إيران. يضاف الى ذلك، إقدام فنزويلا على طرد السفير الإسرائيلي من كراكاس بعد العدوان على قطاع غزة. هنا، تأتي زيارة الأسد الى هذه الدول للتعبير عن تقدير هذه المواقف واستقلالية قرارها والحفاظ على هذه الدينامية الإيجابية في العلاقات بين المنطقة العربية والقارة اللاتينية، ذلك ان «القضايا العربية لا تنتظر التأجيل». كما انها تأتي لتعويض تقصير الدول العربية في التواصل مع هذه الكتلة الصاعدة. وفي هذا السياق، ينتظر ان تزور الرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز دي كرشنر دمشق قبل نهاية السنة، علماً ان قادة فنزويلا وكوبا والأرجنتين كانوا زاروا العاصمة السورية في السنوات الماضية. وينطلق البعد الثاني من هذه القاعدة السياسية الإيجابية، إذ كان أحد أهداف «الجولة التاريخية» هو ترجمة السياسة الى اقتصاد. كيف؟ أولاً، جرى توقيع عدد من الاتفاقات الاقتصادية بين سورية وكل من هذه الدول الأربع. ثانياً، الاتفاق على آليات للمتابعة وتنفيذ الاتفاقات، إذ من المقرر ان تقوم وفود اقتصادية وفنية بزيارة دمشق لوضع تصورات ومقترحات لرفعها الى الجهات السياسية لتطوير العلاقات. ثالثاً، انضمام سورية الى كتلة «ميركوسور»، ذلك ان الأرجنتين، التي تترأس الدورة الحالية اتفقت مع البرازيل، على دعم توقيع سورية اتفاقية للتبادل التجاري مع هذه الكتلة. وتستظل هذه الخطوة برؤية استراتيجية أوسع شرحها الأسد، خصوصاً في فنزويلا. وينطلق ذلك من الرؤية التي قدمتها سورية لنفسها في الفترة الأخيرة لتكون ممراً ورابطاً بين البحور الخمسة: الأبيض المتوسط، قزوين، الأسود، الأحمر، والخليج العربي، بحيث تكون نقطة التقاء لخطوط الغاز والنفط والطاقة والنقل. وكان لافتاً ان الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز احضر خريطة للعالم الى المؤتمر الصحافي مع الرئيس الأسد، وأخرج (تشافيز) قلماً وراح يربط سورية بأميركا اللاتنية بعد التصور الذي قدمه الأسد. وأكد الرئيس الفنزويلي على ضرورة العمل على ربط الكتلتين العربية واللاتينية، بحيث تكون سورية بوابة القارة الأميركية الى الشرق الأوسط، وفنزويلا بوابة سورية والعالم العربي الى القارة الأميركية. وكان هناك حرص على ان تقوم القيادات السياسية والمغتربون باختصار المسافات بين هاتين القارتين، إضافة الى تفعيل الخط الجوي بين دمشق وكراكاس وإقامة خط نقل بحري بين موانئ البلدين. ومن هناك يأتي البعد الثالث لجولة الأسد ويتعلق بوجود ملايين المغتربين في هذه الدول. إذ ساهم وجود هؤلاء في تخفيف الغربة السياسية للقضايا العربية في فنزويلا والبرازيل والأرجنتين، كما ساهم في اختصار المسافات والزمن، إذ لم يحمل هؤلاء في القرن التاسع عشر عاداتهم وتقاليدهم وحسب، بل انهم حملوا الهموم السياسية للمنطقة العربية. وحرص الأسد على لقاء الجالية السورية ومؤسساتها في كل دولة زارها، بينها المستشفى السوري - اللبناني في ساوباولو والبيت العربي في بوينس ايرس. ولم يكن مفاجئاً ان الجالية السورية - اللبنانية عبرت عن «الحال الطبيعية» بين هذين البلدين، إذ انهم جاؤوا الى بلد المهجر من سورية وهم يرفضون ان يسموا لبنانيين أو سوريين، فحرصوا على تسمية أنفسهم ب «سوريو لبنانيز». واكتسبت لقاءات الأسد بالجالية أهمية، اذ كان هناك حرص على ان تدعم الجالية السياسييين والأحزاب التي تدعم القضايا العربية، خصوصاً الصراع العربي - الإسرائيلي من جهة، وعلى الإبقاء على الدينامية الإيجابية في العلاقة في أبناء الأجيال الجديدة من المغتربين من جهة ثانية. وجرى التأكيد على ان الجالية تمثل «الجسر البشري» بين الكتلتين لاختصار المسافات عبر الجمع بين الاندماج الكلي في المجتمع الاغترابي والولاء لقضايا الوطن والتواصل معه اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. لا شك في ان جولة الأسد كانت ناجحة واختراقاً استراتيجياً في قارة ناهضة تضم دولة كبرى هي البرازيل تشكل الاقتصاد الثامن في العالم وستكون رقماً سياسياً مهماً في السياسة الدولية في العقد المقبل. لكن التحدي، هو الحفاظ على دينامية النجاح وتنفيذ الاتفاقات المتفق عليها والبحث عن نقاط المصالح المشتركة بين كتلتين تفصل بينهما آلاف الكيلومترات. الأهم، الوعي ان جماعات الضغط اليهودية ستعمل على «سحب» هذه الساحة من الجانب العربي وتأييد قضاياه، ذلك ان النجاح يستفز المتضررين منه. * صحافي من أسرة «الحياة»