ضرب لي موعداً في قصر الفنون، المبنى العربي الطراز في جوار النيل الذي يستقبل الزائر لدار الأوبرا المصرية. وجدته هناك بين علب الألوان وأدوات الرسم. كان منهمكاً في رسم لوحة كبيرة لنيل القاهرة. درجات مائلة إلى الزرقة تتشكل خطاً تحيطه درجات أخرى خضراء ورمادية. تتماهى درجات اللون مع مساحات أخرى خارجة لتوها من العدم. لوحة للنهر لم تتشكل معالمها بعد. هذا هو العمل الذي يشارك به الفنان المصري محمد عبلة في معرض جماعي يقام في المكان. قال لي ممازحاً حين لمح شيئاً من الدهشة على ملامحي: «أنا أعمل هنا في مكان العرض نفسه، حتى أثبت أن العمل ينتمي لي وليس لشخص آخر... سوف أرسم اللوحة وأتركها لتجف، وسأترك بجانبها أيضاً كل هذه الفوضى من علب اللون وأدوات الرسم». النيل في خطر. جملة مكتوبة إلى جواره تلخص بوضوح فكرة اللوحة ومشاعره التي تسيطر عليه إزاء هذا النهر العظيم. هو يشعر بالقلق البالغ إزاء ما أثير حول هذه الخلافات بين دول المنبع والمصب. فذلك النهر الذي كنا مطمئنين إلى جواره لآلاف السنين، صار مهدداً. أصبح تدفقه مرهوناً بخلاف أو اتفاق بين أطراف. هذا ما يخيف الفنان محمد عبلة ويرعبه ويدفعه إلى تأمل هذا النهر واحتضانه في لوحات يرسمها هذه الأيام. أقام عبلة أول معارضه الشخصية بعد ستة أشهر فقط من تخرجه. كان وقتها يتأمل بعين وجلة ملامح الحركة التشكيلية المصرية. كان مرتبكاً كما يقول. لم يدرِ كيف يرد على أحد رواد معرضه حين سأله عن ثمن إحدى اللوحات. كل طموحه في الفن وقتها كان أن يحصل على مكان يستطيع العمل من خلاله. مرسم صغير في قلب القاهرة، هذه المدينة المزدحمة التي ظل يرصدها ويتأمل وجوه سكانها، فهم أبطال تجربته مع الفن والحياة. هذه التجربة التي تميزت بالتمرد والحيوية. العلاقة بين محمد عبلة والمجتمع علاقة وطيدة ومتشابكة. لا تتوقف عند حدود اللوحة بل تتعداها إلى نقاط من التلاحم والارتباط، حرص هو على وجودها وتأكيدها في مناسبات عدة. أدواته لا حدود لها ابتداء من اللون التقليدي المعالج بالفرشاة والسكين إلى الأصباغ والطباعة والفوتوغرافيا وأجهزة العرض الحديثة. تأثيراته مزيج من الخربشات وضربات الفرشاة السريعة والمتتالية على مساحة العمل المفتوح على مصراعية أمام الإضافات كافة. تخرج محمد عبلة في الفنون الجميلة عام 1977. فكيف كان يرى الحركة التشكيلية المصرية في هذا الوقت المبكر من تجربته؟ يرد قائلاً: الحركة التشكيلية المصرية في أواخر السبعينات كان يغلب عليها الجمود، فلم يكن هناك هذا الكم من قاعات العرض أو المعارض الكبيرة. ولم يكن هناك أحد يثيرني ممن هم على الساحة وقتها سوى الفنان حامد ندا، فقد كان فناناً مجرباً لديه طاقة لا حدود لها، وأنا في ذلك الوقت لم أكن أميل إلى الجمود، كنت أريد الانطلاق والتحرر. محمد عبلة معروف مصوراً، ولكن له علاقة وثيقة بالنحت أيضاً. ففي قلب مدينة فالسرودة الألمانية ينتصب هناك تمثال ميداني من تصميمه. فما قصة هذا التمثال، وما علاقة محمد عبلة بالنحت، هذه العلاقة التي يجهلها كثر؟يقول: «درستُ النحت والغرافيك في سويسرا، وكنت مغرماً بتشكيل المعادن، وفي الفترة التي كنت فيها في ألمانيا، سمعت عن مسابقة لعمل تمثال ميداني هناك، فقدمت تصميماً لعمل يدور حول أسطورة سيزيف، وكان لهذا التصميم الحظ في الفوز بالجائزة الأولى، ولكن الغريب أنه بعد فوزي بتلك الجائزة اعترض البعض على أحقيتي بها، مستنكرين إقامة تمثال ميداني في مدينة ألمانية من تصميم فنان غير ألماني، وأعيد التحكيم مرة ثانية ثم ثالثة، وفي المرتين كان العمل الذي تقدمت به هو الفائز فتم تنفيذه وإقامته. ويضيف قائلاً: أنا أحب النحت لكن المناخ في مصر لم يشجعني على ممارسة النحت، فأنا أرى النحت في مصر في أسوأ حالاته، إذ تسيطر عليه حالة من الرتابة غير المعهودة. فحينما يكون المسؤولون عن الثقافة هنا مُصرّين على تقديم أسماء بعينها وتبني أساليب واتجاهات معينة، فلا بد أن يتدهور فن النحت في مصر... فهم على سبيل المثال يتعاملون مع آدم حنين كنموذج، ويضعونه على رأس حركة النحت في مصر، وأنا أرفض ذلك وأختلف مع أسلوب آدم حنين في شكل مطلق، فأسلوبه في رأيي غير مثير وغير محفز. حصل الفنان محمد عبلة على منحة للدراسة في إسبانيا بعد تخرجه في الفنون الجميلة، لكنه حين ذهب إلى هناك رفض أسلوب الدراسة وأعلن رفضه أيضاً هذه المنحة. يقول عبلة: «سفري إلى إسبانيا كان منحة من أكاديمية سان فرناندو، وحين ذهبت هناك لم تعجبني الدراسة، لأني وجدتها تشبه ما تلقيته هنا في الفنون الجميلة، وكان قبولي الاستمرار أشبه بتمثيلية سخيفة، فقد ذهبت إلى إسبانيا معتقداً أني سأكمل دراساتي العليا هناك كما فعل فنانون مصريون آخرون كبار ما زالوا يتشدقون بحصولهم على الدكتوراه في الفنون من إسبانيا، لكنني اكتشفت أنه ليس لديهم دراسات عليا وليس ثمة دكتوراه في الفن ومعظم أساتذة الفنون الجميلة الذين ذهبوا للدراسة في إسبانيا لم يدرسوا سوى هذه الدراسة التي تعادل الدراسة في الفنون الجميلة، وأن درجات الدكتوراه التي حصلوا عليها هي مجرد كذبة، فرفضت المنحة. بعدها سافرت إلى فرنسا ومن فرنسا عبرت إلى ألمانيا، وهناك أقمت أول معرض لي في أوروبا بعد وصولي بأيام قليلة، بعدها أقمت عدداً من المعارض، ثم ذهبت إلى النمسا لدراسة الغرافيك، وبعدها انتقلت إلى سويسرا، حيث درست النحت ثم علم النفس. ارتبط الفنان محمد عبلة منذ سنوات بالفوتوغرافيا، التي مثلت العنصر الرئيس في معظم أعماله الأخيرة، فكيف بدأت هذه العلاقة الحميمة بالفوتوغرافيا ولماذا؟ - علاقتي بالفوتوغرافيا بدأت في التسعينات بعد حريق مرسمي في المسافر خانة، حينها أمسكت بالكاميرا، وأخذت أسجل ما تبقى من المكان، وبدأت علاقتي بالكاميرا منذ ذلك الوقت كآداة للتسجيل، وبدأت أبحث في موضوع الفوتوغرافيا بعمق واهتمام أكثر. والفوتوغرافيا في رأيي هي وسيلة من أفضل الوسائل التي أتاحتها التكنولوجيا للفنان في العصر الحديث، فقد أصبح لديه إمكانية هائلة لم تكن متاحة للفنانين من قبله، قديماً كانوا يرسمون اسكتشات لأنه لم يكن لديهم وسيلة أخرى للتسجيل وأنا أعتبر أن الفوتوغرافيا تعادل رسم الاسكتشات. لماذا اخترت جزيرة القرصاية وهي إحدى الجزر الصغيرة الموجودة في النيل وابتعدت عن السكن في قلب القاهرة على رغم أن لك اهتماماً برصد الناس في الشارع المصري؟ - جزيرة القرصاية مجتمع صغير يعيش على الصيد والزراعة، وأنا أرتبط بعلاقات صداقة وحب ومودة مع جميع سكانها، وقبل وجودي في هذه الجزيرة كنت أبيت في المرسم في الحسين وبعد احتراقه أقمت في الحرانية، وسبب اختياري جزيرة القرصاية يعود إلى نوع من الفوبيا التي انتابتني بعد حريق مرسمي في المسافر خانة، فقد كان هناك فكرة سوريالية تحاصرني حينها وهي أن أقيم مرسماً لي في مكان محاط بالماء. إلى أي مدى يمكن الفنان التعبير والاشتباك مع قضايا المجتمع؟ - الفنان يجب أن يكون لديه قضية، ونحن في زمن مليء بالقضايا والتساؤلات والأحداث المتشابكة. وفي مصر الآن هناك حالة فوران وغليان، وأي فنان لا يتأثر بما يجرى فهو منفصل عن مجتمعه... حين كنت أدافع عن جزيرة القرصاية بعد محاولات بيعها لأحد المستثمرين كنت أدافع عنها من منطلق وطني ومن منطلق شخصي أيضاً. فالفنان عليه أن يشارك في الحياة العامة ويجب أن يكون لديه دور، ليس مهماً أن ينتمي لأي حزب أو اتجاه، فالفنان - في رأيي - أكبر وأكثر تأثيراً من الأحزاب وهو المحرك للأحداث دائماً، ولكن عليه أولاً أن يشعر بنبض مجتمعه الذى يعيش فيه. أنت أحد الموقعين على بيان الدكتور محمد البرادعي، فهل يعد هذا تناقضاً في موقفك؟ - نعم، أنا وقعت على بيان الدكتور محمد البرادعي، ولا أعتبر هذا تناقضاً بالمرة... الجمعية الوطنية للتغيير ليست حزباً سياسياً، فنحن جميعاً نطمح للتغيير، ونود أن تتحقق المطالب الخمسة الواردة في بيان الجمعية الوطنية للتغيير، ولكن حين يؤسس محمد البرادعي حزباً فلن أنتمي إليه. كيف ترى الشارع المصري الآن وأنت الراصد له في أعمالك؟ - أكثر ما يزعجني هو تلك الشريحة من الشباب التي تعلمت في مدارس أجنبية، هؤلاء الذين سيلتحقون أيضاً بالجامعات الأجنبية التي بدأت تنتشر في مصر من دون أن يعرفوا شيئاً عن تاريخ هذا البلد... هؤلاء أبناء الطبقة الغنية التى بيدها مقاليد الأمور، وهذه الأجيال سترث مكانة آبائها، وسيكونون هم أيضاً صفوة المجتمع، فتخيل أي مستقبل يمكن أن ينتظر مصر حينها! يلفت نظري أيضاً هذا الحزن الذي بدأ يسيطر على وجوه المصريين، فأنا أصور الناس وأرسمهم في الشوارع، وقلما تجد شخصاً مبتسماً في الشارع هذه الأيام وهو أمر مقلق. في نهاية عام 2005 عرضت مجموعة من اللوحات كانت بمثابة رثاء للطبقة المتوسطة، واعتمدت في هذه اللوحات على الصور الفوتوغرافية القديمة، فما الذي دعاك إلى تناول مثل هذا الموضوع؟ - يقول الفنان: في هذا المعرض كنت أتكلم عن الطبقة المتوسطة التي كان منوطاً بها نقل المعرفة والمحافظة على القيم. فالمعرض كان تحية لهذه الطبقة التي تآكلت ولم تعد موجودة، وكانت فكرة الحنين إلى الماضي مسيطرة علي في هذا المعرض، كما كنت أشعر حينها أن شيئاً ما في المجتمع قد اختفى أو تغير.