شق صوت الشيخ اللاجئ في ولاية بنسلفانيا الأميركية جو النشوة الذي طغى على تركيا بفضل تصريحات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان النارية التي اطلقها رصاصاً في قلب اسرائيل، فبينما كان أردوغان ينافس نفسه في صف عبارات جديدة وصفات جديدة يلقي بها حمماً على الحكومة الإسرائيلية ومسؤوليها، وبينما كان الشارع الإسلامي والقومي واليساري يغلي على الأرض محاصراً بيت السفير الإسرائيلي، وبينما الديبلوماسية التركية تسعى جاهدة لتصوير عودة المحتجزين الذين كانوا على ظهر أسطول الحرية من اسرائيل خلال يومين فقط من دون تحقيق أو احتجاز على أنه نصر غير مسبوق على اسرائيل، وبينما اعتى عتاة المعارضة السياسية والإعلامية في تركيا يخشى أن يوجه - في ظل هذه الأجواء الاحتفالية والحماسية - أقل انتقاد أو حتى ملاحظة على أداء الحكومة أو موقفها، جاء أول انتقاد واعتراض من شخصية اسلامية لها وزنها وحضورها بل وأتباعها الذين يشكلون كتلة انتخابية لا يستهان بها، جاء من طرف الشيخ فتح الله غولان زعيم جماعة النور (النورسيين) أهم حلفاء اردوغان في الحكم، بل لعله الحليف الذي يرقى الى صفة الشريك الخفي الذي يؤمن الدعم على الأرض وفي وسائل الإعلام ويساعد الحكومة على كشف عورات الجيش، ويستغل نفوذه في الأوساط الكردية لدعم مشروع الحكومة لحل القضية الكردية. انتقد غولان، وبوضوح، انطلاق قافلة الحرية من دون التنسيق مع اسرائيل والحصول مسبقاً على اذن تل ابيب، وهو موقف أدهش كثيرين في تركيا بل صدمهم، وفتح باب الانتقاد على مصراعيه امام من تردد في توجيه النقد او الاعتراض قبل ذلك، ثم تبع ذلك الموقف مقال كتبه عاكف بكي المستشار الإعلامي السابق لرئيس الوزراء والمحسوب عليه في الوسط الإعلامي، أنتقد فيه ايضاً سياسة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو متهماً اياه بجر تركيا الى مستنقعات الشرق الأوسط وهدم كل ما تم بناؤه من نجاح دبلوماسي في سبيل تلميع نفسه وأبراز نفسه على الساحة العربية والشرق أوسطية على حساب أردوغان (خصوصاً عندما اختتم داود أوغلو كلمته امام وزراء الخارجية العرب في المنتدى العربي - التركي في اسطنبول قائلاً: وإن شاء الله سنصلي معاً في الأقصى)، وهو المقال الذي جعل كثيرين يعتقدون بأن هناك خلافاً أو حساسية بين الرجلين بسبب بروز نجم داود أوغلو، وهو ما ليس بصحيح وإن سعى من هم حول أردوغان الى ترويج ذلك لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقاً. تصريحات السيد غولان لم تكن زلة لسان، اذ دعمها بعد ذلك عدد من الأقلام الموالية له والتي ركزت على تصرفات السياسة الخارجية تجاه ملف ايران النووي وإسرائيل، واتهموها بالعاطفية والأيديولوجية والابتعاد عن السياسة المعتادة القائمة على الاتزان وعدم الانحياز الى طرف دون آخر، ومما جاء فيها القول إن السياسة الخارجية التركية التي تنتصر لأهالي غزة من مطلق انساني كما تقول، تغمض عينيها تماماً امام سياسات ايران القمعية تجاه المعارضة والمعارضين، بالإضافة الى انتقاد ربط الحكومة موضوع رفع الحصار عن غزة بالمطالب التركية المنطقية الثلاثة الناتجة من اعتداء الجيش الإسرائيلي على أسطول الحرية في المياه الدولية وقتل تسعة اتراك على متنها، وهي المطالبة باعتذار رسمي وتعويضات ولجنة تحقيق دولية، وهو ما جعل كثيرين يعتقدون إن تركيا تقدم ملف غزة على ما سواه من مصالحها الخاصة المباشرة، فبالنسبة الى هؤلاء كان لابد من توضيح أن التوتر بين أنقرة وتل أبيب سببه قتل الجيش الإسرائيلي مواطنين اتراكاً والتعرض لهم في عرض البحر، وليس الحصار المفروض على غزة منذ حوالى ثلاث سنوات، كما ان ربط المطالب التركية المتعلقة بدم مواطنيها وسمعتها، بطلب رفع الحصار الذي يصب في مصلحة «حماس» قبل أن يصب ربما في مصلحة أهل غزة هو ما أثار حفيظة المعترضين على سياسة داود أوغلو. عملية التنافس لكن هناك سبباً أخر اهم وراء انتقاد جماعة «النور» لعملية أسطول الحرية، هو أن ما حدث من سجال دولي شكل فرصة مهمة لتصفية حساب طال وتأخر بين جماعتين اسلاميتين تشاركان حزب العدالة والتنمية الحكم، الأولى هي جماعة «النور» والثانية هي امتدادات جماعة الإخوان المسلمين التركية المتمثلة في جمعية الإغاثة المسماة «جمعية الحريات والحقوق الإسلامية للإغاثة» أي IHH والتي تحظى بدعم وتشجيع من وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي سعى منذ عمله كمستشار لوزير الخارجية عبدالله غل قبل سبع سنوات الى جمع شمل منظمات المجتمع المدني في تركيا والعالم الإسلامي، انطلاقاً من ايمانه بأهمية دور هذه الجمعيات في تفعيل الشارع والتأثير في الأجندة والضغط على الحكومات وتشكيل رأي عام، فمن جمعية صغيرة تسعى لمساعدة الفقراء والمحتاجين، تحولت IHH الى أكبر وأهم جمعية اغاثة في تركيا، وبلغت قيمة مساعداتها لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسورية والأردن وغزة حوالى 25 مليون دولار عام 2009، بينما مجموع مساعدات تركيا الرسمية لم تتجاوز العشرة ملايين دولار في نفس السنة. وكانت الجمعية على رغم هويتها الإغاثية تعمل ضمن أجندة سياسية واضحة هدفها دعم حركة «حماس»، فاستضافت قيادات الحركة في تركيا وأمنت لقاءهم مسؤولين في الخارجية، من دون أن تكون تركيا دعت هؤلاء في شكل رسمي، كما استطاعت هذه المنظمة أن تحرك الشارع التركي انتصاراً للقضية الفلسطينية تارة ولحماس تارة أخرى والربط بينهما، في أوقات فضل فيها حزب العدالة والتنمية أن يكون بعيداً من الصورة. أي انها باختصار كانت اليد الثالثة والخفية لحزب العدالة والتنمية الحاكم التي ينفذ بها ما يريد من أجندة لا يريد لها أن تسجل في كشف حسابه الرسمي. نمو هذه الجمعية وهذه الجماعة، لفت انتباه جماعة فتح الله غولان التي تنأى بنفسها عن اجندة السياسة الخارجية وتركز على الحضور في مفاصل الدولة ومعركتها الصامته مع العسكر . وبدأ الجميع يشهد حساسيات بسبب احتكاك رجال الجماعتين داخل المؤسسة الحكومية الواحدة، أو في الشارع، أو كما حدث أخيراً في الإعلام وعلى أرصفة السياسة، أو عندما ضاقت المنافع والمصالح الاقتصادية بهما معاً، فكل طرف ينتظر من الحكومة مورداً مالياً في شكل عمل أو مشروع للشركات المقربة منه من أجل تمويل مشاريعه السياسية على الأرض. كما أن شهرة جمعية الإغاثة ورئيسها بولنت يلدرم التي وصلت ذروتها بعد احتكاك الجماعتين كانت مؤشراً إلى احتمال أن تشكل نقطة تحول مهمة في تاريخ هذه الجمعية والجماعة التي تقف وراءها، خصوصاً أن بولنت يلدرم اثبت ومن خلال تصرفاته الشخصية التي يغلب عليها الاعتدال والانفتاح على الآخر والغرب، أن يرفع اسهم جمعيته في شكل غير مسبوق، فاستطاع الاتصال بالجمعيات الأوروبية والتنسيق معها، ولم ير حرجاً في الجلوس بين عدد من النساء الممثلات لتلك الجمعيات في مؤتمر صحافي - بعد حادثة احتجاز السفن - بدا خلاله التنسيق والاتفاق مع تلك النساء في إطار عمل يتجاوز التعامل التقليدي للجماعات الإسلامية مع النساء عموماً والغربيات منهن خصوصاً ومع المنظمات الأوروبية ايضاً. وعلى رغم العلاقة الوثيقة بين يلدرم والحكومة التركية، فإن ازدياد قوة الجمعية اصبح يهدد بخروجها عن السيطرة والأجندة المرسومة لها، وأهم دليل على ذلك فشل الخارجية التركية في اقناع الجمعية بتأجيل رحلة أسطول الحرية وإعطاء فرصة لمفاوضات السلام غير المباشرة، اذ بدا أن القاعدة الشعبية والتنظيمية للجمعية كبرت في شكل أصبح يشكل ضغطاً عكسياً على الحكومة، ولعل داود أوغلو لم يخطر في باله أن الجمعيات التي عمل على دعمها وتوجيهها للضغط على الحكومات وتشكيل رأي عام يتجاوز الحدود السياسية، ستضغط على حكومته هو في يوم من الأيام. مصالح متعارضة بعض الرجال المحيطين بأردوغان من الذين تركوا لزعيمهم هموم السياسة وتفرغوا هم لشؤون المال بحجة توفير الدعم للحزب، يدركون أن بينهم وبين جماعة فتح الله غولان تحالفاً طبيعياً تفرضه المصلحة، مصلحة البقاء في الحكم والاستفادة من منافعه، وهؤلاء لا يخفون انزعاجهم من زيادة كاريزما وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي يبدو لهم مغرداً خارج السرب، اذ يجمع حوله تلاميذه ومعارفه الشخصيين، ضمن اطار تعاون يجمعه العمل كمستشارين ومساعدين أو ضمن اطار منظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث (علماً أن هذه الاتصالات والعلاقات تضايق ايضاً رجال الديبلوماسية البيروقراطية في الخارجية التركية لأنها في رأيهم تشكل قنوات موازية لقنوات العمل الدبلوماسي الشرعي المتمثل في السلك الدبلوماسي)، حتى بات لداود أوغلو ما يمكن تسميته برجاله او جماعته الخاصة التي تبدو اقرب وعلى اتصال بالحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي وعلى رأسها حركة «حماس». كما أن بزوغ نجم داود أوغلو في وقت يستعد فيه أردوغان للصعود الى قصر الرئاسة بعد سنتين يطرح سؤالاً مهماً على اعوان اردوغان المهتمين بالشأن المالي والنفوذ والذين يعتقدون بأنهم سيبقون خارج الحسابات اذا تولى داود أوغلو زعامة الحزب بعد اردوغان أو عاد عبدالله غل الى الحزب، لذا فأنهم يميلون الى ترويج احاديث عن حساسية بين أردوغان وداود أوغلو أو خلاف، ولا يترددون في انتقاد تصرفات داود أوغلو أو تصريحاته، بصوت منخفض داخل بيت الحزب، لكن هذا الصوت يجد طريقه الى الخارج . ولعل هذه التوازنات هي ما دفع هؤلاء الرجال الى دعم أردوغان في فكرة الاحتكام الى انتخابات مبكرة للاستفادة من الجو العام على الأرض الغاضب من اسرائيل، والمنتصر لموقف حكومته امام تل أبيب، خصوصاً أن الحجة قائمة وموجودة، وهي قرار المحكمة الدستورية الذي سيصدر قريباً على الأغلب بنقض ثلاثة تعديلات دستورية أقرها البرلمان التركي بغالبية أصوات الحزب الحاكم في شأن اعادة بناء مؤسسة القضاء وصلاحيات المحكمة الدستورية نفسها، والتي من المفترض أن يتم الاستفتاء عليها في 12 أيلول (سبتمبر) المقبل، اذ من المرجح أن يرد أردوغان على قرار المحكمة إذا صدر بهذا الاتجاه بالاحتكام الى الشارع مجدداً، والظروف تبدو مواتية الآن، لكن هذا التوجه - الذي ما زال قائماً - يواجهه خطر تزايد هجمات حزب العمال الكردستاني التي أوقعت الحكومة في مأزق حرج، خصوصاً أن المعارضة بدأت تطالب بالانتخابات المبكرة، والخضوع لهذا الطلب قد يعتبر اعترافاً من حكومة اردوغان بالعجز امام حزب العمال الكردستاني. تركيا مؤثرة وتركيا متأثرة ما يجمع عليه الداخل التركي هو الإصرار على مطالب تركيا من اسرائيل بتقديم اعتذار رسمي وتعويض اهالي ضحايا أسطول الحرية، والقبول بلجنة تحقيق دولية، ومن غير الواضح ما اذا كانت حكومة اردوغان ستستطيع تحقيق ذلك بعد التصريحات النارية وتوعد اسرائيل بالرد المناسب في الوقت المناسب والتهديد بتجميد العلاقات والاتفاقيات وخفض التمثيل الديبلوماسي، خصوصاً أن الجميع بات يعرف ومن خلال تقديم اردوغان الشكر للإدارة الأميركية على ما قدمت لأنقرة من ضغط على اسرائيل من أجل الإفراج عن المحتجزين سريعاً، محدودية الردع التركي أو تأثيرات تهديدات أنقرة بمعزل عن دعم واشنطن في ما يتعلق بإسرائيل. لكن الخلاف والانشقاق بدأ يتضح في المواقف والأفكار ليس على الساحة السياسية فحسب انما داخل الحزب الحاكم ومن يسانده، حول المضي اكثر من اللازم في التورط بقضايا الشرق الأوسط الشائكة والتي كلفت تركيا ارواح تسعة من أبنائها، ومع وجود هذا التنافس بين الجماعات والمصالح داخل بيت حزب العدالة والتنمية، ووجود مؤشرات على أن هناك من يحاول تجيير السياسات والمواقف التركية التي يفترض أن تكون مبنية على مبادئ عامة ولهدف مصلحة وطنية، الى خدمة مصالح ضيقة لأحزاب وحركات اسلامية في المنطقة، خصوصاً أن كثيرين في تركيا بدأوا يخشون من أن الدور التركي المدعوم من الغرب لدفع الحركات الإسلامية المتطرفة والمسلحة الى الاعتدال، بدأ يتحول سلباً، مع التخوف من أن تتأثر سياسات تركيا الخارجية بضغط تلك الحركات وامتداداتها داخل البيت التركي وهو الأمر الذي ترفضه أهم وأقدم الحركات الإسلامية الوطنية في تركيا وأكثرها تأثيراً.