عندما زار رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جوزيف بلاتر، أفريقيا عام 1976 أدرك الأهمية التي توليها شعوب تلك القارة للعبة كرة القدم. كما أدرك بالتالي أن ال "فيفا" مقصرة بحق دول قدمت للعبة كرة القدم العالمية أفضل اللاعبين، إن كان على صعيد الانضباط والتفوق، أم على صعيد المهارة في استخدام الاقدام. وقد أدهشه خلال تلك الزيارة، ما شاهده من شغف رياضي بممارسة أقل الألعاب تكلفة. أي أن أداء هذه الرياضة لا يحتاج الى أكثر من كرة، في حين تبدو الألعاب الأخرى كالتنس والركبي والغولف، متعذرة على الفقراء بسبب شروط المباريات، وتكاليفها الباهظة. من هنا قول مدير مجلة "تايم" ريتشارد ستينغال، إن لعبة كرة القدم هي أكثر الألعاب الرياضية ديموقراطية ومساواة بين الشعوب والأفراد، خصوصاً أن ممارستها لا تحتاج الى أكثر من كرة أو حتى علبة معدنية، يستطيع بواسطتها أطفال أحياء "الريو" في البرازيل أو "كيب تاون" في جنوب أفريقيا، التنفيس عن مشاعر الضغط النفسي أو الرتابة المملة. يقول رئيس دولة جنوب أفريقيا جاكوب زوما، إن اكتشاف الهيكل العظمي لإنسان الحلقة المفقودة قرب جوهانسبرغ، قدم الدليل الساطع على أن بلاده شهدت ظهور أول حلقة لتطور الإنسان منذ أكثر من مليون سنة، وعليه طالب المنظمات الدولية بضرورة احترام هذا الإرث البشري التاريخي، والتعاطي مع القارة التي احتضنته بكثير من التقدير والوفاء. وقال الرئيس زوما أيضاً إن الاحتفالات التي ستبدأ يوم 11 حزيران (يونيو) تذكر شعب "قوس القزح" باليوم الذي ولدت فيه أسطورة الزعيم نيلسون مانديلا، لأنه في ذلك التاريخ بالذات من عام 1964 حكمت محكمة "ريغونيا" على منديلا وسبعة من رفاقه بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة، ونقل على الفور الى جزيرة "روبن ايلاند" حيث أمضى 27 سنة من دون أن ينهار أو يساوم على تحرير بلاده من قبضة الحكم العنصري. ولما خرج من المعتقل في 11 شباط (فباير) 1990، وجد في تعاون رئيس الوزراء الأبيض دي كليرك، شخصاً جريئاً قادراً على إعطاء الغالبية السوداء حقوقها وحريتها. كانت لعبة كرة القدم بالنسبة الى السجين مانديلا، هي المتعة الوحيدة التي تخفف عنه ضغوط السجن الانفرادي. ومع أنه كان يمارسها تحت إشراف الجنود البيض، إلا أنها وفرت له فرص التحدث مع رفاقه المساجين، ولو في حدود القوانين الصارمة. ولكنه يعترف في مذكراته بأن فترة توليه الحكم كانت صعبة جداً، خصوصاً أثناء عملية الانصهار الوطني والتعاون الرسمي بين السود والبيض. وكثيراً ما كان يواجه بأسئلة محرجة تتعلق بالمغفرة التي منحها لمضطهديه الذين سجنوه، وكانوا يعجبون من قدرته على تناسي الأحقاد والذل أكثر من إعجابهم بقدرته على احتمال العزلة مدة طويلة. ومن أجل غسل رواسب الحقد والضغينة، استخدم مانديلا بطولة العالم للركبي التي أُقيمت في جنوب أفريقيا عام 1995، فرصة لتوحيد السود والبيض عقب نهاية حقبة الفصل العنصري. وقد ظهرت نشاطاته عبر الفيلم الذي انتج عن بداية سنوات حكمه، وكيف تغلب منطقه الحكيم على منطق دعاة التفرقة من أعوانه الذين كانوا ينظرون الى لعبة الركبي كرياضة خاصة بالبيض، ولكن إلحاحه المتواصل حطّم جدار العزلة وكسر "تابو" العنصرية المقيتة. كان من المتوقع أن يحضر مانديلا حفلة افتتاح كأس العالم في "سوكر سيتي" ليشارك في الحدث التاريخي الذي تحتضنه بلاده. ولكنه اعتذر عن الحضور بسبب موت حفيدته زيناني مانديلا بحادث سير مفجع. وكان من الطبيعي أن يحدث غيابه فراغاً سياسياً واجتماعياً لم تعوض عنه الاحتفالات التي كلفت الدولة أكثر من أربعة بلايين دولار. علّق جوزف بلاتر، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، على استضافة جنوب أفريقيا "المونديال" بقوله: "لقد أثبتنا أن هذه اللعبة الرياضية لا تخص قارة محددة، فهي اليوم لأفريقيا مثلما كانت سابقاً لأوروبا. وعليه يجب أن تكون استضافتها متاحة للجميع. صحيح أن التكاليف كانت مرهقة، ولكن المردود الاقتصادي - السياحي - العمراني، سيكون مربحاً. ومن المؤكد أن البنية التحتية التي نُفذت على أكمل وجه ستبقى ذخراً للأجيال المقبلة". المؤيديون لخيار جوزيف بلاتر واجهوا حملة معارضة شرسة قادها اليمين المتطرف في بريطانيا وهولندا وألمانيا. وحجتهم أن البيئة الاجتماعية لا توحي بالاطمئنان في بلاد يستشري فيها الفساد وإهمال الدولة وارتفاع معدلات الجريمة وانتشار العنف والأوبئة المعدية. ولم يترك المعترضون نقيصة إلا وألصقوها بالقارة الأفريقية أملاً في سحب امتياز استضافة كأس العالم من جنوب أفريقيا. الرئيس الليبي معمر القذافي واجه حملة الاعتراض بشن هجوم مضاد على الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) واصفاً إياه ب "منظمة المافيا العالمية الفاسدة". وقال بمناسبة ذكرى جلاء القوات الأميركية إن الفيفا تحرم كل الدول الفقيرة من حق استضافة المونديال لأنها منظمة الأغنياء فقط. والمعروف أن نجله الساعدي القذافي الذي كان يلعب مع فريق إيطالي، سعى مراراً لإقناع "فيفا" باختيار ليبيا مكاناً لاستضافة كأس العالم. ويبدو أن كل الدول العربية، باستثناء الجزائر، فشلت في الوصول الى نهائيات كأس العالم. علماً أن مصر خاضت حرباً سياسية وإعلامية ضد الجزائر بسبب هذا الموضوع. وكانت تتوقع أن تثمر عطاءات فرقها الشهيرة التي نقلت عن الاستعمار البريطاني قوانين هذه اللعبة الشعبية. وقد أثبتت الوقائع أن شغف المصريين بلعبة كرة القدم لا يدانيه من حيث التعصب سوى شغف البريطانيين الذين ابتكروا هذه اللعبة عام 1860. واليوم يزيد عدد فرق الكرة في مصر على 32 فريقاً، أشهرها "الأهلي" و "الزمالك". وقد ولد "الزمالك" من رحم فريق "المختلط". أما فريق الأهلي" فقد احتفل منذ مدة قصيرة ببلوغه المئة. ويروي الذين عاصروا ولادة فرق كرة القدم في السعودية، أن الأمير عبدالله الفيصل دعم فريق "الأهلي" في المملكة بسبب إعجابه بفريق الاهلي المصري، وقاده الشغف بهذه اللعبة الى تخصيص جوائز ثمينة لأي لاعب يسدد هدفاً في مرمى الفريق المنافس. وقد اضطر والده المغفور له الملك فيصل الى التدخل في مسألة خلاف نشب بين نجله الأمير عبدالله ورجل الأعمال يوسف الطويل، والسبب أن الطويل كان مشجعاً لفريق منافس على البطولة هو "الاتحاد". ويلاحظ كل من يزور المملكة أن أسماء فرق الأهلي والاتحاد والهلال والنصر، تتصدر جدران الشوارع في جدة والرياض، وأن الحماسة التي يبديها المشاهدون لمنتخباتهم لا تقل عن حماسة اللبنانيين لأحزابهم السياسية! في حفلة افتتاح "المونديال" قال الرئيس زوما إنه يأسف لغياب مانديلا، لأن شعب هذه البلاد - سوده وبيضه - يريد تقديم أفضل مثال لما أنتجته جنوب أفريقيا، ووصف هذا المثال بأنه دولة في رجل، باعتباره يمثل وحدة وطنية لولاه لما تحققت. وفي آخر حديث له مع مراسل مجلة "تايم" بروس نلان، روى له مانديلا الكثير مما يختلط في ذاكرته وقد تخطى ال91 من عمر أمضى ثلثه في زنزانة لا يزيد طولها على ثلاثة أمتار. قال: "عندما أبتسم للمصورين، تبقى ذاكرتي موزعة بين ماض أليم ومستقبل غامض. ومع الماضي أتذكر الرفاق الذين سقطوا في درب التحرير ولم يبلغوا الهدف النهائي لمشاركتي الاحتفال بولادة وطن واحد فوق أرض مقسمة. وعندما دخلت المعتقل رأيت حراساً مدججين بالسلاح لم تغب أعينهم عن مراقبتي طوال 27 سنة. واليوم أيضاً أبصر حراساً حولي يُحظر عليّ أن أغيب عن مراقبتهم لئلا يغتالني مهووس حاقد. وفي الحالين، أشعر بأنني أسير ظرفين مختلفين: الثائر الذي اعتبره نظام التمييز العنصري تهديداً وخطراً على استمراره، والمؤسس الذي أصبح أسير الشهرة والنفوذ. وكل مشكلتي اليوم أن دور القائد يحرمني من الاستمتاع بالتحدث الى حفيدتي زيناني". سجلت الفضائيات رقماً مخيفاً لثلاثة بلايين مشاهد حرصوا على متابعة نشاطات "المونديال" يوم الافتتاح (11 حزيران/ يونيو). ومن المتوقع أن يزداد هذا الرقم قبل نهاية المباريات المحددة يوم 11 تموز (يوليو). وبذلك يكون الملعب قد شهد 64 مباراة للفوز بكأس البطولة. قبل أن تسدل الستارة على هذا الفصل المفرح، لا بد من التذكير بأن المنافسة على استمالة شعوب هذه القارة احتدمت في شكل ضار خلال السنوات الخمس الماضية بين الولاياتالمتحدة والصين والهند وفرنسا وبريطانيا والبرازيل. وبلغ حجم التبادل مع الصين مئة بليون دولار سنوياً، كما ازداد حجم التبادل مع الهند الى 40 بليون دولار في السنة، ويتوقع المراقبون أن يرتفع عدد سكان أفريقيا من 860 مليون نسمة الى بليونين بعد أربعين سنة، أي ما يعادل ثلث سكان الأرض حالياً. والى أن يعبر العالم هذه المسافة الزمنية، ستصبح القارة الأفريقية هدفاً للباحثين عن النفط والغاز وواحات اليورانيوم ومصادر المعادن والأحجار الكريمة. * كاتب وصحافي لبناني