رواية الكاتب المصري حاتم حافظ «لأن الأشياء تحدث» تنهض على موقف صغير تتولد منه حكايات وصور وأفكار مدهشة وبليغة. شاب تُباغته زوجته ذات يوم برغبة تجرح سكون الصمت الأحمق الذي كان يلفّ روحيهما. كانا معتقلين في واحدة من تلك الإشارات المرورية اللعينة في مدينة القاهرة. فجأة تقول له بهدوء وإصرار: «طلقني يا حسام...». يعترف «حسام» أنهما طوال سنوات زواجهما ظلا يُمثلان أنهما زوج وزوجة، فهو لم يحبها أكثر مما أحب اسمها، وهي لم تعرف أبداً أنه مُطوَّق بإحساس التعاسة والفشل كفأر في مصيدة. على رغم ذلك يندهش ولا يعرف سبباً للطلاق؟ ثم لماذا قاطعت المأذون «برقة شديدة مصحوبة بابتسامة رائعة»، قائلة: «الطلاق أفضل لكلينا؟». فجأة، بين ليلة وضحاها، وبعد ثلاث سنوات من الزواج والحياة المشتركة، أمضياها معاً بحلوها ومرّها، يجد «حسام» نفسه مُطلَّقاً وحيداً في مواجهة شكوكه وأسئلته المُعلقة: كيف يتبدل البشر بهذه السرعة؟ هل يتبدل الناس ويفقدون مشاعرهم فجأة لمجرد أن خطوط علاقتهم تبدلت أو تقطعت؟ بكبرياء جريح، مشوب بالعدوانية والتهكم أحياناً، يحاول «حسام» لملمة شتات نفسه، خصوصاً في ظل تقوقعه وانعزاله عن العالم، محاولاً الفكاك من مأزقه الوجودي، فالحياة بعبثها تجثم فوق أنفاسه. يظل مُطارداً بأفكاره وهواجسه الوجودية، مرتعباً من فكرة الخروج من بيته مما يُحلينا إلى بطل «الحمامة» للألماني باتريك زوسكيند. عقب الطلاق ينفي «حسام» اضطرابه وتوتره أو حتى تورطه في فخ الفقد. يُؤكد أنه في حال جيدة. تصرفاته تُؤكد العكس. يرغب في الحكي عن أزمته مع «سهام» طليقته. يهتدي إلى كتابة رسائل إلكترونية إلى شخص مجهول كان تعرف اليه قبل عام في إحدى غرف الدردشة على «الإنترنت» وظل يُحدثه عن علاقته الزوجية التي ملَّها تماماً. لكنه لا يعرف على وجه الدقة إن كان هذا الشخص لا يزال على قيد الحياة، وبالتالي سيقرأ رسائله الجديدة أم أنه نفذ وعده بالانتحار؟ لا يدري أيضاً هل كان رجلاً أم امرأة تخفّت في هيئة رجل لتعرف ما يفكر الرجال به وكيف يُفكرون؟ كما أن هواجس الشك تُحاصره بين حين وآخر خوفاً من أن يكون هذا الشخص هو نفسه «سهام» زوجته، إذ من المحتمل أنها حاولت استنطاق صمته ومعرفة حقيقة مشاعره؟ ولا ندري نحن القراء حقيقة هوية المُرسل إليه فربما كان هو نفسه «حسام» الذي أدرك أن فعل الكتابة سيُخلصه من آلام محنته. الرسائل أشبه بقصص قصيرة مكثفة تستكمل بعضها بعضاً، لتتسع وتتغير، صعوداً وهبوطاً وتُوظف داخل رؤية فلسفية تتطور وتتعقد وتنحرف بالوعي نحو افتتان بشخصية الزوجة. رسائل غنية بالإيحاءات والتداعيات والأوهام الجذابة، تتأمل الحياة ونفوس البشر. رسائل اختيرت كلماتها بدقة وعناية وأناقة، وكُتبت بأسلوب أدبي جميل. حكايتها خالية من الأحداث والحبكة، فهي لا تعتمد على أسلوب السرد التقليدي لكنها تنبض بالحياة ويملأها الصدق. طوال 32 رسالة موزعة على 140 صفحة يُواصل «حسام» رسم عالمه الزاخر بالحيرة والقلق والحزن، ينزع الحجاب عن تلك العلاقة التي طالما بدت للآخرين جميلة براقة ومثالية، لكنها على أرض الواقع وفي الحقيقة كانت مفعمة بالمرارة يكتنفها الزيف والمنغصات والمخاوف. الانقلاب المفاجئ في حياة «حسام» يجعله يحكي عن أخطائه وعالمه ببساطة وعمق، بسخرية ضاحكة أحياناً، ومؤلمة أحياناً أخرى. يتعرى بكامل إرادته. يلج بنا العوالم النفسية المتناقضة لشخصيته، بأكثر تفاصيلها دقة لنُدرك كم هو إنسان بريء يملأه الشجن. لا، ليس بريئاً تماماً. شخصيته مزيج من الأشياء، من الجبن والتهور، من القسوة والرقة، من القوة والضعف. أو بالأحرى مثل «تفاحة نصفها معطوب، ونصفها الآخر غض»، وهكذا أيضاً كانت علاقته بزوجته وأبيه، وبالعالم من حوله. رجل آخر على مدار أشهر ثلاثة، هي زمن الرواية، ظل «حسام» يدور حول نفسه. كأنه يبحث في حياة رجل آخر. يكتب، يُحلل ذاته وأسباب أزمته. لا يُواري حقده ونقمته المتزايدة على وضعه المالي والاجتماعي والمهني. لا يرى فارقاً جوهرياً بين حياته في ظل «الرئيس الحكيم» وحياة والده تحت حكم «الرئيس المؤمن». الفارق الحقيقي يتجلى في عهد «الزعيم الخالد». لا يكف عن مقارنة نفسه بالآخرين، بزوج «ابتسام» الغائب في بلاد النفط، بالخادمات اللائي تكسبن أفضل منه، ب «عز» الزبال الذي يحصد آلاف الجنيهات شهرياً، بزوجته التي صار راتبها أضعاف مرتبه. لا يمنعه ذلك من استعادة لحظات حميمة عاشها مع «سهام» كانت بقدر ما تُخفف شيئاً من وطأة احساسه بالاكتئاب والوحشة، تشعره بالحزن والفقدان. وهي في الوقت نفسه تُلقي دفقة ضوء على اضطراب علاقاته بأبيه الذي فقد اتصاله بالعالم رويداً رويداً بغياب شريكة حياته وفقدان حاسة السمع في إشارة رمزية بالغة الدلالة والمغزى تُقارن ولو في شكل موارب بين مصير الابن وأبيه. على رغم أن الأحداث تُسرد من وجهة نظر الزوج فقط، عبر مونولوغ أحادي، لكنها تكشف عن توتر شخصيته المُروَّعة بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بين تصوره عن زوجته وصورتها الأخرى المُنسلة عبر التفاصيل، والمُناقضة لشخصيته تماماً. ف «سهام» كانت قادرة على رؤية العالم واكتشافه وتقويمه وفق صوتها الداخلي. كانت تمتلك إحساساً يجعلها دائماً على خط تماس إنساني عميق مع البشر من حولها، قادرة على فهم تصرفاتهم، وسبر أغوارهم، والتعاطف معهم، مع «عز» الزبّال، مع أحقاد «وجيدة» زوجة صديقه «وليد»، مع شجون والده عندما توفيت زوجته فأقام مزاداً لبيع أثاث البيت، وفي أقسى لحظات مرضه. يبقى مركز البوح في الرواية منصباً على تلك العلاقة الزوجية، على تساؤل جوهري يُؤرق البطل. لماذا لم ينجح زواجه؟ ألأنه لم يُدرك أن الحب تضحية؟ هل كان عليه أن يفهم زوجته أكثر من ذلك؟ لماذا بقي طوال زواجهما لا يعرف عنها أكثر مما عرفه أثناء فترة الخطوبة؟ لو خطا نحوها خطوات عدة هل كانت حياته تبدلت وأنقذ حبهما الذي انطفأ؟ هل كان الجنس سبباً في فشل زواجهما مع أن رغباتهما لم تكن عنيفة؟ هل كانت زوجته تشعر بالرضا والإشباع؟ ألم يعترف بأن علاقتهما كان ينقصها سر المتعة الحقيقية وأنهما كانا في حاجة إلى لمسة جنون؟ مع اقتراب النهاية وعبر تراكم ردود الفعل العفوية نستشعر حب «حسام» لزوجته حتى وإن لم تعد إليه، فالألم أعاد إليه إنسانيته، ارتقى بمشاعره، جعله يستعيد قدرته على الرؤية. انفصال «سهام» عنه أعاد إليه اتصاله بالعالم من جديد. غيابها أكد الحضور. وهي أشياء لم تكن تتحقق لو كان «حسام» شخصاً متسلطاً جباراً مهووساً برغبة التملك والاستحواذ. ربما لذلك أيضاً عندما نُغلق الرواية نُدرك مغزى جملته «أن شيئاً كان مفقوداً في طريقه للحضور»، كما ندرك مغزى كلمات «سهام»: «الطلاق أفضل لكلينا». «لأن الأشياء تحدث» هي أولى روايات حاتم حافظ. تمكن فيها وبصفحات قليلة من صنع حكاية فريدة، مُوحية، ومكتملة التأثير يصعب نسيانها. كان طوالها يعمل بخياله الروائي على توليد الأفكار بمهارة ودقة، على رسم مواقف درامية نفسية مؤثرة، على التقاط تفاصيل إنسانية تنتصر للمرأة، وعلى طرح أفكار فلسفية بسيطة على رغم عمقها. أقام بينها وشائج قوية متبادلة، نسجها ببراعة صانعاً منها بناءً محكماً مشدود الإيقاع، ليُؤكد أنه فنان حساس له بصمته وصوته الروائي الشديد الخصوصية.