أكد الناقد محمد الصفراني أن المشهد الثقافي لا يملأ بمبان خرسانية ومكاتب فارهة فقط، مشددا على أهمية أن تطرح وزارة الثقافة والإعلام استراتيجية ثقافية متكاملة تمكن المؤسسات الثقافية من العمل كمنظومة ثقافية تنتشل المشهد الثقافي من الجمود إلى رحاب الديناميكية وتسهم بشكل واضح وملموس في تغيير فكر وثقافة المجتمع. ولفت الصفراني في حوار مع «الحياة» إلى أنه من دون هذه الاستراتيجية ستكون المراكز الثقافية مثلها مثل مجمعات الإدارات الحكومية، التي كانت سائدة في بعض مدن المملكة قديماً ومثل مشاريع المجمعات السكنية العقارية، التي تضم عدداً كبيراً من السكان، لكنهم لا يعرفون عن بعضهم شيئاً سوى أنهم يدخلون ويخرجون من بوابة واحدة، متسائلا ما الجديد في المراكز الثقافية إذا لم توجد الاستراتيجية الثقافية التي حدد رؤيتها ورسالتها وأهدافها في كتابه الجديد. إلى تفاصيل الحوار. كنت حذراً ومتردداً من قبول رؤيتك في مقدمة كتابك «نحو مجتمع المعرفة: متطلبات التنمية الثقافية والأمن الفكري في المملكة» وقبل الخوض في طرح متطلبات التنمية الثقافية في السعودية، على رغم أن الواقع يثبت نجاح التجربة في بعض الدول العربية المتقدمة فلماذا كل هذا الحذر؟ - الحذر أمر يرد في ذهن كل من يريد طرح وجهة نظر جديدة خصوصاً إذا كانت وجهة النظر تتعلق بتشخيص الواقع الثقافي إلى حد التعرية، ويعود الحذر الواعي بطبائع القراء ونوعياتهم في مشهدنا الثقافي إلى جانب نوعيات القراءة، ولذلك بدأت الكتاب بعنوان دال هو(ميثاق القراءة) طالبت القراء فيه بالاحتكام إلى أسئلة الكتاب المعرفية ومفاهيمه المركزية وليس إلى خلفياتهم المسبقة عن مواضيعه أو ظنونهم، وطالبتهم بتنحية القراءة الاقتصاصية الجائرة التي تنزع الكلمات والأفكار من سياقاتها وتضخها في سياقات مضادة على طريقة الوقف على «لا تقربوا الصلاة»، أما التردد فأعتقد أنه غير موجود بدليل إصدار الكتاب. إنشاء البنية التحتية للثقافة كان احد متطلبات التنمية الثقافية التي طرحتها في كتابك، وشهدنا أخيراً وللمرة الأولى على مستوى المملكة إنشاء مركز ثقافي في المدينةالمنورة وبكلفة 26 مليون ريال، ما طموحاتك بخصوص المشروع؟ - المشهد الثقافي لا يملأ بمبان خرسانية ومكاتب فارهة فقط، على رغم أهميتها كبنية أساسية من البنى التحتية للثقافة، المهم وما أدعو له هو أن تطرح وزارة الثقافة والإعلام السعودية استراتيجية ثقافية متكاملة لعمل المؤسسات الثقافية التي طرحتها وطالبت بها تمكن المؤسسات الثقافية المقترحة من العمل كمنظومة ثقافية مؤسساتية تنتشل المشهد الثقافي من الجمود الاستاتيكي إلى رحاب الديناميكية الثقافية وتسهم بشكل واضح وملموس في تغيير فكر وثقافة المجتمع من الارتهان إلى الثقافة العمودية والصوت الأحادي إلى الثقافة الأفقية والأصوات المتعددة المتفاعلة، ومن دون هذه الاستراتيجية ستكون المراكز الثقافية مثلها مثل مجمعات الإدارات الحكومية التي كانت سائدة في بعض مدن المملكة قديماً ومثل مشاريع المجمعات السكنية العقارية التي تضم عدداً كبيراً من السكان، لكنهم لا يعرفون عن بعضهم شيئاً سوى أنهم يدخلون ويخرجون من بوابة واحدة فما الجديد في المراكز الثقافية إذا لم توجد الاستراتيجية الثقافية التي حددت رؤيتها ورسالتها وأهدافها في الكتاب، إن أهم أهداف المركز الثقافي هو تحقيق مبدأ تجاور وتكامل الفنون، وتنسيق الفعاليات الثقافية بحيث لا تتزامن فعاليتان ثقافيتان في مدينة واحدة في يوم واحد، وتعويد الجمهور الثقافي على حضور مختلف الفعاليات الثقافية في مكان واحد. طالب عدد من الناشرين والكتاب السعوديين بضرورة إنشاء هيئة للكتاب وذلك في الاحتفالية التي نظمها نادي الرياض الأدبي أخيراً بمناسبة يوم الكتاب العالمي، ما الدور الذي ستحققه هيئة الكتاب لو تم تنفيذها؟ - إطلاق سراح الكتب السعودية من محابسها ومخازنها وإيصالها إلى القارئ العربي، والتعريف بالنتاج الفكري والأدبي المحلي والعربي والعالمي داخل السعودية وخارجها، وتحقيق كتب التراث وإعادة طباعة المحقق منها، وترجمة الكتب المهمة عالمياً، وعقد الندوات والمؤتمرات، ودرس ميول المجتمع القرائية وتوجيهها بالاتجاه السليم، وإصدار المجلات والدوريات المحكمة في مختلف العلوم، وتكليف البارزين في العلوم بتأليف الكتب ودعمها، والكثير الكثير مما يؤدي إلى الارتقاء بمستوى الطرح والتفاعل الثقافي ووعي المجتمع. ألا ترى أن إحداث وزارة البحث العلمي هو المطلب الأهم والذي يختصر كل متطلبات التنمية المطروحة لنحقق قفزة آمنة وسريعة باتجاه مجتمع المعرفة؟ - إحداث وزارة للبحث العلمي لا يعني تقليص أدوار مراكز البحوث الموجودة في الجامعات ولا يختصر متطلبات التنمية الثقافية، لكنه يعني تأسيس المراكز البحثية المتخصصة في جميع فروع الثقافة والعلوم وجوانب الحياة والمجتمع لتكوين الرؤية الاستشرافية وإعطاء (المجلس الثقافي الأعلى) القدرة على صياغة الاستراتيجية الثقافية صياغة مبنية على أسس علمية قوية وأهداف واضحة ونتائج مضمونة كما يمكنه من إجراء المراجعات الدورية التطويرية للاستراتيجية في ضوء المستجدات والتطورات على الصعد كافة، وقد اهتمت كثير من دول العالم المتقدم بإحداث وزارات للبحث العلمي لهذا الغرض يتفرع عنها مراكز بحثية متخصصة تعرف علمياً باسم صهاريج الفكر تضم نخبة من المثقفين والمفكرين والعلماء وتعرف هذه النخبة علمياً باسم رأس المال المعرفي الذي يعني: المجموع الكلي الكمي والنوعي من القوى البشرية المتاحة في المجتمع، فالجانب النوعي يمثل الكفاءات الذهنية والمستويات العلمية للسكان ومن خلال المستوى التعليمي يتم تحديد الجانب النوعي المرتبط بالخبرة والمعرفة، أما الجانب الكمي فيحتسب من خلال الحجم الكلي للسكان، فرأس المال المعرفي هو: مجموعة العقول المنتجة للأفكار الجديدة الخلاقة والقادرة على الاختراع والابتكار والاكتشاف في جميع مجالات الثقافة المختلفة من خلال البحث العلمي. وافتقار بنية المشهد الثقافي في السعودية إلى وزارة البحث العلمي يعني الافتقار إلى التخطيط الاستراتيجي والمستقبلي والاعتماد على الفعل ورد الفعل بمعنى أن يقع الأمر ثم يتم التفكير في التعامل معه ومعالجته، والمفترض توقع حدوث الأمر ووضع البدائل العلاجية والاستراتيجية للتعامل معه ولو كان للاهتمام بمراكز البحوث المتخصصة تحت مظلة وزارة البحث العلمي مكان في بنية مشهدنا الثقافي لما وقعت الجرائم الإرهابية في مجتمعنا لأن مراكز البحوث المتخصصة كانت ستتنبأ بها قبل حدوثها بواسطة البحث والتحليل وتضع الخطط المحكمة لتلافي الوقوع فيها والسيناريوهات الخاصة للتعامل معها. قلت: «لوحظ أن المخاوف الاجتماعية وليست المالية هي أكبر العوائق أمام التقدم نحو مجتمع المعرفة»...هل من تفاصيل أكثر حول ذلك؟ - عاش المجتمع السعودي طوال عقود مضت ولا يزال تحت مقولة مقاومة الغزو الفكري مما ولد لديه ثقافة رفض الجديد قبل فهمه، ويدخل تحت الجديد النتاج الفكري والتقني، فمناهج النقد ونظرياته والتقنيات الحديثة من الراديو إلى ما صنع وما لم يصنع كلها قوبلت وستقابل بالرفض تحت مقولة الغزو الفكري وهذا هو الرهاب الاجتماعي والفوبيا الثقافية عينهما وما لم يتحرر المجتمع من هذه العقدة سيكون من الصعب عليه تقبل النقلة النوعية من مجتمع منغلق ومقاوم وغير منتج إلى مجتمع منفتح ومتفهم ومنتج، هذا ما عنيته بالمخاوف الاجتماعية، أما الجوانب المالية فأعتقد أنها لا تمثل مشكلة على الصعيدين الحكومي والاجتماعي بمعنى أننا قادرون مالياً على إنشاء مصنع ولكننا مترددون ومرتابون من نوعية إنتاجه وغير قادرين على إنشائه وتشغيله بعقول وطنية نظراً لأننا نحتاج إلى وقت طويل لمعرفة أثر كل شيء في خصوصيتنا المزعومة، إذ لا خصوصية لنا إلا في التوجس والريبة من كل قادم. طرحت تساؤلات عدة خلال حديثك عن مدى تحقيق التفاعلية الثقافية وتركت للقارئ حرية النقاش حولها، هل مشوارنا سيطول نحو المعرفة عندما يكون العائق خلل في الأفكار والأنماط السلوكية السائدة؟ - من أسس التفكير الحر ألا يملي المفكر أفكاره على أحد، وألا يعتقد أو يتوهم أنه يمتلك الحقيقة،كل ما عليه أن يفكر ويطرح أفكاره على سبيل المقترحات ليأتي من بعده من يؤكد صحتها أو يطورها أو يحققها أو ينسفها ويبين خطأها، ومن جهتي فأنا متفائل جداً لأننا بدأنا المشوار فعلاً (وأن تصل متأخراً خير من ألا تصل)، ولتفاؤلي ما يبرره. أولاً: مشروع الحوار الوطني، ثانياً: انطلاق عدد الجامعات السعودية من سبع جامعات إلى قرابة الثلاثين جامعة في أقل من ست سنوات بتوسع نوعي يركز على العلوم التطبيقية الحديثة، ثالثاً: مشروع الملك عبدالله الذي مكن عشرات الآلاف من السعوديين من الدراسة في أرقى جامعات العالم، رابعاً: التحول التدريجي من الاقتصاد الريعي (النفط) إلى الاقتصاد الإنتاجي الصناعي من خلال إنشاء المدن الاقتصادية والصناعية مما زاد من عدد مدن المملكة زيادة نوعية، خامساً: اتساع هامش حرية الرأي بدليل صدور كتابي هذا الذي أنفي فيه وجود سياسة ثقافية في السعودية وأقترح متطلبات للتنمية الثقافية، إضافة إلى تحديد معوقات الأمن الفكري ودعائمه من خلال قضايا وأحداث كان الحديث عن بعضها في فترات سابقة غير مقبول. كيف ترى أثر الحوار الوطني في التقاء التيارات الثقافية؟ وهل نجح المثقفون في التعبير عن آرائهم بإيجابية من خلاله على رغم الاختلاف؟ - صحيح أن الحوار لا يحتاج إلى مأسسة لكن مشروع الحوار الوطني نجح في جوانب كثيرة أهمها في نظري أنه ضخ مفهوم الحوار في النسيج الثقافي للمجتمع، وحلحل كثيراً من جبهات الحقد الثقافي وقرب وجهات النظر، ولعل من أبرز ثمار مشروع الحوار الوطني هي لجان مناصحة الإرهابيين، ففكرة المناصحة في حد ذاتها مبنية على الحوار وقد أثارت هذه الفكرة إعجاب الدول المتقدمة الضالعة في الديموقراطية وحرية التعبير على حد زعمها وقد وصل إعجابهم بهذه الفكرة الرائعة حد الإشادة وطلب الاستفادة من التجربة السعودية في هذا المجال في حين أنه كان بالإمكان انتهاج نهج القمع والتعذيب ولهذا النهج ما يبرره ويدعمه نظراً لوجود التعاطف المحلي والعالمي ضد قضايا الإرهاب والإرهابيين. أما عن نجاح المثقفين في التعبير عن آرائهم وأفكارهم من خلال الحوار الوطني فهذه مسألة شخصية تحددها طبيعة كل مثقف على حدة وعلى رغم ذلك فهي مسألة قابلة للقياس من وجهة نظري.