تواجه مصر أزمة حقيقية في نهر النيل، تتجسد في ثلاثة محاور. المحور الأول هو مطالبة إثيوبيا بإعادة توزيع حصص الدول من مياه النهر وفقاً لأحكام القانون الدولي والمعايير التي وضعها قانون أحواض الأنهار الدولية وعدم الاعتراف بالاتفاقات المعقودة نيابة عن الدول الإفريقية لصالح مصر. والحق أن إثيوبيا تنتهج خطاً سياسياً أكثر من كونه خطاً قانونياً، لأن موقفها القانوني حول الاتفاقات الاستعمارية يلحق به نقدان مهمان: الأول، أن هذه الاتفاقات كانت تتعلق أساساً بالحدود ومناطق النفوذ وتضمنت مادة واحدة لتأمين حق مصر كدولة مصب بالصورة التي فصَلتها هذه المادة في معظم هذه الاتفاقات، وهذا هو السبب الذي من أجله حرصت اتفاقية فيينا للعام 1978 الخاصة بالتوارث في مجال المعاهدات الدولية على عدم المساس بحقوق الدول النهرية بسبب التوارث الدولي. صحيح أن هذه الاتفاقية اشتملت على منهج قاطع يتعلق بالصحيفة البيضاء التي لا تلزم الدول الوليدة على قبول ما التزمت به الدول المستعمرة لها، إلا أن هذا المنهج لا يصطدم بحقوق مصر وهي دولة كانت ضحية للاستعمار في الواقع، ولكنها دولة نهرية يستقر النهر على شواطئ المتوسط فيها. أما الثغرة الثانية في الموقف الأثيوبي فهي أن أثيوبيا بالذات تعاقدت بمحض إرادتها في خمس من هذه الاتفاقات لم تكن في أي منها دولة محتلة حتى تتمسك بمذهب الصحيفة البيضاء، وأحدث معاهداتها كانت عام 1993 مع مصر مباشرة. ومعلوم أن معظم محصول النهر من الماء الوارد إلى مصر يصل من إثيوبيا بصرف النظر عن العوامل السياسية التي دفعت أديس أبابا الآن فقط للانقلاب على تقاليد موقفها طيلة هذه العقود. أما المحور الثاني فهو مطالبة كينيا بتسعير مياه النيل جرياً على اتجاه بدأ يتبلور ومارسته دول أخرى مثل مالاوي وجنوب إفريقيا وتركيا وإسرائيل وإيران والكويت. ولكن هذه الأمثلة لا تعني أن تسعير المياه وضبط أسعارها في بورصة دولية صار قناعة دولية مستقرة لأن هذا الاتجاه يقوم على مساواة الماء بالنفط كثروة طبيعية على رغم الفوارق القاطعة بين الماء الذي جعل منه الله كل شيء حي ولا سبيل إلى البقاء على قيد الحياة من دونه، وبين النفط، كمصدر للثروة، وهي مسألة مختلفة تماماً. لذلك فإن الطروحات الإثيوبية أساسها سياسي، كما أن الطروحات الكينية مدخلها سياسي بامتياز ولهجة لم تعهدها مصر في هذه الدول الإفريقية الكبيرة. أما المحور الثالث الذي تركز عليه هذه المقالة فهو مدى التزام دولة جنوب السودان بالاتفاقية المصرية السودانية لعام 1959 للانتفاع المشترك بمياه النيل. عقدت هذه الاتفاقية بين مصر والسودان لتجسد اتفاقية 1929 صراحة، ولكنها لم تلق قبولاً من الدول النيلية الأخرى لأنها رأت أنه لا يجوز اقتسام مياه النيل بمعزل عن بقية أطرافه، ولذلك كان توقيع بعض هذه الدول على مشروع الاتفاق الاطاري رداً بعد نصف قرن على الاتفاقية المصرية السودانية. ويبدو أن الأدلة والشواهد تشير إلى أن جنوب السودان سيختار الانفصال في دولة مستقلة، فهل سيلتزم اتفاقية الخرطوم مع القاهرة، أم سيلقى دعم الدول النيلية الأخرى في رفض هذه الاتفاقية؟ تتضمن اتفاقية 1959عدداً من الأحكام بعض منها يتعلق بالتعاون بين طرفيها لتنمية مصادر النهر وحصيلته، وبعض يتعلق بالإدارة المشتركة في ما زاد في هذه الحصيلة، وبعض يتصل بتأمين حاجة مصر من المياه بقدر من حصة السودان، وهي سلفة مائية تقدر بثمانية بلايين متر مكعب. في هذه الحالة لن يكون جنوب السودان مجاوراً لمصر يتعاون معها في إدارة المياه، بل نتوقع أن تقع أزمات وتوترات بين الخرطوم وجوبا بسبب المياه ومناطق الرعي والبترول في مناطق الحدود الجنوبية في أبيي موضوع التحكيم الشهير أواسط عام 2009. ولذلك فإن مصر ستضار بسبب هذه التعقيدات وستقل حصتها الحالية، كما سيتضاعف الضرر إذا صحَ أنه عام 2020 ستقل حصيلة النهر من المياه عموماً. من الناحية القانونية، يلتزم الجنوب باتفاق 1959 لأن استقلاله ليس تحرراً من دولة استعمارية وإنما هو ترتيب نص عليه اتفاق نيفاشا، كما نرى أن هذه السلفة المائية مستحقة الأداء، إلا إذا اضطرت الظروف وباتفاق بين الخرطوم وجوبا على التفاهم مع مصر عليها أو الاتفاق على تعديل اتفاق 1959. * كاتب مصري.