تتسارع الأحداث يوماً بعد يوم لتضع حداً لكثير من المسلمات والأنظمة والأعراف المتبعة في العالم لأكثر من قرن بعد دخوله «مطحنة» العولمة واشتداد حدة حالات «التأثر والتأثير» في مختلف القضايا الصغيرة والكبيرة مهما كانت درجة الاختلاف التي تسود المجتمعات القريبة والبعيدة المتفقة والمختلفة والمتآلفة والمتباعدة. فقد شهدت نهايات القرن العشرين أحداثاً تاريخية مهمة كان الرمز فيها سقوط جدار برلين لكن الواقع الصارخ تمثل في سقوط الأنظمة الدكتاتورية الفردية وانهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد االسوفياتي. ونتج عن هذه التطورات الدراماتيكية تحول روسيا من النظام الشمولي الصارم إلى ديموقراطية خاصة تقوم على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتسمح بتعدد الأحزاب مع الاحتفاظ بخصوصيات المرحلة والحساسيات الروسية واستمرار نفوذ جهاز الاستخبارات (الكي جي بي)، مع التحول تدريجياً من النظام الاقتصادي الشيوعي الذي يكرس هيمنة الدولة على المفاصل والقرارات ومختلف مراكز الإنتاج إلى نظام شبه حر يأخذ الكثير من أدبيات اقتصاد السوق ومبادئه ونظمه. هذا الحدث الخطير غيّر وجه العالم وأنهى ما كان يسمى بالحرب الباردة وضرب التوازن في الصراع الذي استمر نحو قرن من الزمن بين المعسكرين الشرقي والغربي، وتزامن مع بدء عصر العولمة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا وحرية الفضاء والبث عبر الأقمار الصناعية فيما وصف بأنه عالم جديد تحول الى «قرية كونية صغيرة». لكن توالي الأحداث وتسارع التطورات لم يستوعبا انعكاسات هذا التحول الكوني، فقد ترددت الأصداء في كل أنحاء المعمورة ورددت مقولات تبدو وكأنها مسلمات مثل «هيمنة الولاياتالمتحدة» وسقوط النظام العالمي القديم وقيام نظام عالمي جديد (ركيزته أحادية القوة العظمى، أي أميركا، وقدرتها على الإمساك بزمام أمور العالم لفترة طويلة قد تمتد إلى أكثر من نصف قرن). ولكن حسابات الحقل لم تتفق مع حسابات البيدر، ولم تجر السفن كما يشتهي الربان الأميركي، إذ تسارعت الأحداث لتهز النظام الأحادي وتغير خريطة العالم وتدق مسماراً في نعش ما سمي بالنظام العالمي الجديد وهو ما زال يحبو ولم يغادر مهده، ولم ينعم بلذة الهيمنة وسادية السيطرة وسعادة التفرد بالقرار العالمي. البداية كانت مع زلزال الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 وتفجيرات نيويورك وواشنطن وما نجم عنها من ارتدادات بينها تفشي الإرهاب وظهور «القاعدة»، وتواصلت المفاجآت مع غزو أفغانستان لإسقاط نظام «طالبان» وضرب «القاعدة» برئاسة أسامة بن لادن ثم المضي في مسيرة الغرور والعنجهية بغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين. وظن كثيرون أن النظام العالمي الجديد بدأ يؤتي أكله ويمد أذرعته حول عنق العالم وأن زعامة الولاياتالمتحدة قد تكرست وأن مزاعم ما يسمى «المحافظين الجدد» بإنجاز حلم الإمبراطورية قد وصل الى مبتغاه في الهيمنة والقدرة على شن حربين في آن واحد والسيطرة على منابع النفط وطرقه، وبالتالي على مقدرات الاقتصاد العالمي، بحيث تملك الولاياتالمتحدة بيدها مفاتيح الخزائن وصنابيرها وحنفياتها التي تفتح لمن تشاء وتغلق امام من لا تشاء. وهنا أيضاً أخطأ المحافظون الجدد في حساباتهم وانكشفت سياساتهم ونزع القناع عن وجوههم المتخفية التي تمثل الصهيونية العالمية بأبشع صورها والعنصرية البغيضة بكل فسقها والجشع المادي بكل ما فيه من مساوئ بغيضة، فحرب أفغانستان فشلت في تحقيق أهدافها و «طالبان» ما زالت موجودة و «القاعدة» لم توقف عملياتها. أما حرب العراق فحدث عنها ولا حرج فقد فاقت في خسائرها المعنوية والمادية حرب فيتنام التي أدمت الجيش الأميركي وألحقت العار بسمعته وهزت ملامح القوة التي كانت تتغنى بها الولاياتالمتحدة ويرددها العالم كله. يضاف الى ذلك خروج روسيا من محنتها ونجاحها في إعادة ترتيب أوراقها وتجميع تحالفاتها واستعادة مراكز القوة التي فقدتها ومعها مناطق نفوذها، وفي المقلب الآخر تحولت الصين من «نمر من ورق» الى نمر حقيقي نصفه على ورق العملات وعلى رأسها الدولار الأخضر ونصفه الآخر في إثبات وجوده السياسي والاقتصادي والعسكري في العالم واضطرار الولاياتالمتحدة للاعتراف به وأخذ مخاطره على محمل الجد. أما أوروبا التي كان يصفها المحافظون الجدد بأوروبا القديمة الهرمة فقد استعادت دورها ووحدت قواها وزادت من عدد أعضائها لتستعد للعب دور مميز في العقد المقبل على رغم تعثرها الاقتصادي ومعاناتها المتواصلة نتيجة عدم التجانس والتعايش مع الأعضاء الجدد. باختصار شديد يمكن الجزم بأن ما كان يسمى بالنظام العالمي الجديد قد سقط وقامت على أنقاضه ملامح نظام يبشر بالمشاركة وتعدد القوى وإقامة توازنات جديدة ربما تتطلب «مالطا» عصرية لتقاسم مناطق النفوذ ومنع قيام صراعات قد تكون مدمرة بالإمساك بزمام الأمور وتجنب الفوضى المرتقبة نتيجة لتجدد الإرهاب وتزايد الأخطار النووية غير الممسوكة أو غير المسيطر عليها. هذه التطورات الدراماتيكية والمتغيرات الكبرى حدثت كلها خلال عقد من الزمن وانتهت بسقوط النظام العالمي الجديد وهو يحبو، تلاها حدث خطير مزلزل تمثل بالأزمة المالية العالمية التي أطاحت بنظام السوق وحرية الاقتصاد وانتهت بسقوط النظام المالي القديم بالضربة القاضية من دون أن يتم العمل على بلورة نظام مالي عالمي جديد يحفظ للعالم استقراره وأمنه ويمنع تجدد الأزمات التي قد تضر بالعالم كله وتضرب مقومات الحياة الكريمة لبلايين البشر في دول العالم الغنية والفقيرة لتعم الفوضى والمجاعة وينتشر العنف والإرهاب. واليوم يعيش العالم إرهاصات سقوط النظام الديموقراطي القديم القائم على الانتخابات الحرة والتداول على السيطرة وقبول الآخر حتى ولو فاز بغالبية صوت واحد. فقد أدت التجربة الأخيرة للانتخابات البرلمانية البريطانية الى ضرب صيغة تحكم الحزبين الرئيسيين (العمال والمحافظين) بمقاليد البلاد لفترة أو لفترتين بصلاحيات شبه مطلقة وبدأ البحث عن صيغة جديدة للائتلاف بين الأحزاب، (كما يجري في دول العالم الثالث) للتمكن من نيل الغالبية البرلمانية المؤهلة للحكم الى حين يتم بعدها قلب المائدة والدعوة لانتخابات جديدة على أمل تأمين الغالبية اللازمة ومن ثم الدخول في دوامة التكرار وما ينجم عنها من أزمات وحالات عدم استقرار. واللافت للنظر في هذه المعضلة أن العدوى ممتدة الى جميع دول العالم ولم تنحصر في ما يسمى بأعرق الديموقراطيات، فهي بارزة في أوروبا والولاياتالمتحدة وممتدة الى الديموقراطيات في المنطقة ولا سيما في إسرائيل التي تعيش دوامة الحل والانتخاب منذ أكثر من عقدين من الزمن، ما أوقعها في قبضة الأحزاب المتطرفة وأخضعها لابتزاز الأحزاب الدينية الصغيرة التي ترتكب حماقات جنونية ستؤدي إلى تدمير إسرائيل كان آخرها قصف «قافلة الحرية» الى غزة في شكل وحشي غير مسبوق والتهديد بحروب على امتداد المنطقة. أما المثل العربي الأول الصارخ فيضرب في لبنان حيث منعت الأكثرية من التفرد بالحكم على رغم فوزها بالغالبية في انتخابات حزيران (يونيو) 2009 وأجبرت على المشاركة في حكومة ائتلافية هجينة لا قدرة لها على اتخاذ قرار ولا على إعلان موقف من أية قضية من القضايا. والمثل الثاني الصارخ عربياً نشهده في الكويت التي تعاني من دوامة الاستجوابات والمواجهات والعنتريات في ما سمي بترف الديموقراطية وتفشي حالات حب الظهور والمزايدة لشل عمل الحكومة وحرف مسار العمل الديموقراطي الحقيقي نحو حائط مسدود تمثل في تكرار قرارات حل البرلمان والدعوة الى انتخابات جديدة لعل وعسى ولكن من دون جدوى. أما الظاهرة العربية والعالمية المحيّرة والمخيبة للآمال والمؤدية الى هذه الأزمة فتتمثل في غياب الحماسة الشعبية للانتخابات ولكل مظاهر العمل الديموقراطي وحقوقه وواجباته والتعبير عن النقمة والرفض بالسلبية والامتناع عن التصويت ورفض ممارسة الحق الدستوري والواجب الوطني بدلاً من المشاركة الفعلية في اختيار الأفضل والأكثر قدرة على تلبية رغبات الشعوب ومطالبها. ونجم عن ذلك تدني نسب التصويت وضرب ملامح الصورة المشرفة للديموقراطية التي لا تقوم لها قائمة من دون ديموقراطيين، مما ينذر بمخاطر سقوط النظام الديموقراطي القديم وانهياره من دون أن تلوح في الأفق ملامح نظام ديموقراطي جديد يحقق العدالة للجميع ويحفظ الحقوق ويصحح مسار الديموقراطية ويؤمن التمثيل الشعبي الصحيح والفاعل ويحيي الآمال بمستقبل آمن لا ظلم فيه ولا هيمنة ولا ديكتاتورية سافرة ومبطنة ولا تفرد بالحكم. إنه حلم ما زال بعيد المنال ولكن الحق الوحيد الباقي للشعوب هو حق الحلم وحق الأمل. * كاتب عربي