في العام 1966، أطلقت هوليوود أحد أشرطتها الكلاسيكية في الخيال العلمي: «الرحلة العجائبية» Fantastic Journey (إخراج ريتشارد فليتشر)، الذي رسم ديكوراته الرسام السوريالي الشهير سلفادور دالي. وتخيّل هذا الشريط إرسال غواصة فائقة الصغر تحمل فريقاً طبياً، لتجوب في جسم مريض سعياً لإنقاذ حياته. وحينها، نُظر الى الفيلم باعتباره خيالاً عن الحدّ الأقصى للخيال العلمي. وبعد قرابة نصف قرن، لم تصل التكنولوجيا الى هذا المستوى، لكنها تقترب منه بخطى حثيثة. في مستشفى جامعي في مدينة أخن الألمانية، تحوّلت جراحات القلب المعقدة التي كانت مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً، إلى مسألة روتينية. ويشير هارلاد كوهل، أستاذ القلب في المستشفى، إلى ان المرضى الذين تُستبدل صمامات قلوبهم، باتوا يغادرون المستشفى مشياً، بعد أقل من 24 ساعة على إجرائها. وتتميّز غرف العمليات في مستشفى آخن بحجمها الضخم، الذي يتلاءم مع ما تحتويه من آلات متقدمة تكنولوجياً في الجراحة الحديثة. وتضم هذه الغرَف أجهزة التصوير بأشعة أكس، وبالموجات فوق الصوتية، وبالرنين المغناطيسي، ما يمكّن فرق الجراحة من الحصول على صور مفصلة للأجزاء الدقيقة في جسم الإنسان. وفي معهد ستانفورد للبحوث في كاليفورنيا، استطاع العلماء صنع إنسان آلي (روبوت) يجري الجراحات بمهارة عالية وسرعة فائقة في ميدان المعارك الحربية. ولعل أشهر إنسان آلي يجري عمليات جراحية دقيقة راهناً هو دافنشي، الذي يمثّل نموذجاً مبشراً بأجيال من الروبوت أصغر حجماً بكثير يمكن أن يقوم بعمليات جراحية كاستئصال الأورام. ويطرح ذلك سؤالاً مثيراً عن قرب انتهاء عهد الجراحين المهرة الذين يتكلّفون، في العادة، أموالاً كثيرة. وربما أدى استبدالهم بالروبوت الى توفير أموال طائلة على موازنة الرعاية الصحية. تحت آفاق النانوتكنولوجيا يتيح الاندماج بين علوم النانوتكنولوجي Nanotechnology والروبورت والاتصالات الرقمية المتطوّرة، إحداث نقله نوعيه في الطب، ربما غيّرت صورته نهائية. فلقرون طويلة، ظل الطبيب محوراً للعملية العلاجية. ويعد التقدّم التقني بأن يصبح المريض هو المحور في هذه العملية. وبدأت السوق تشهد تدفقاً لجيل جديد من أجهزة تشخيص الأمراض، التي نجمت عن اندماج علوم الجينوم وتكنولوجيا المعلوماتية. ويستطيع جهاز صغير تحليل عينة دم وإرسال النتيجة الى الطبيب عبر الخليوي كي يعطي العلاج فوراً. وثمة فرق من اختصاصيي المعلوماتية والاتصالات الرقمية المتطورة، خصوصاً في «جامعة هارفرد» و «معهد ماساشوستس للتقنية» تعمل على تحقيق تلك الأمور. وتختصر هذه التقنيات الإلكترونية المتقدمة سريعة التشخيص الوقت على المريض، الذي لا يعود مضطراً لإضاعة يوم في معمل التحليل، وآخر للحصول على النتائج، وثالث للوصول إلى الطبيب. وفي بلد مثل مصر، لم تعد مقابلة اختصاصيي الطب متاحة إلا للقلة. شرعت الأجهزة التي ترصد حال المريض وترسل بياناته إلى الطبيب المعالج فوراً عبر تكنولوجيا الاتصال، في غزو عالم الطب. وقد يُتاح لمريض القلب أو السكري، تثبيت جهاز صغير في جسده يرسل إشارات منتظمة الى مركز طبي يراقب حالته. وإذا طرأ ما يحمل خطراً عليه، يتخذ المركز إجراءات فورية لعلاج المريض مثل حجز سرير له في المستشفى، أو تنبيهه لضرورة أخذ علاج فوري، ما دفع بعض المستشفيات إلى إنشاء سجلات صحية الكترونية. كل ما سبق كان إنتاج علماء حلموا بنقل النموذج الطبي من الاعتماد على الجراحة كحل في نهاية نفق الرعاية الطبية، إلى التشديد على رفع مستوى الوقاية عبر نشر أدوات ذكية رخيصة ومتطورة في المنازل. وروّج هؤلاء أفكاراً مثل إنشاء أكشاك طبية ذكية، ومراحيض حساسّة تخبر الطبيب بنسب السكر في البول. ولم تصب معظم تلك الأفكار نجاحاً. لقد باتت ظاهرة «حوسبة الجسد» Body Computing، تغزو أوروبا والصين أيضاً، بل شهدت بريطانيا انطلاق الطب المتلفز الذي يسمح بتقديم الرعاية الصحية للمسنين عن بعد، ما وفر مبالغ باهظة على نظم الرعاية الصحية. يهدف الطب الرقمي Digital Medicine لجعل الخدمة الطبية أكثر قرباً من المريض، إضافة الى زيادة سرعتها. ومثلاً، تُقدّم سلسلة مستشفيات «مايو كلينك» خدمات الطب الرقمي. وتقدم مستشفى «كايزر برماننت» استشارات طبية عن بعد لمرضاها في كاليفورنيا. وتستخدم مستشفيات «أبوللو» في الهند بانتظام روابط الفيديو لربط المتخصصين بالمناطق النائية لتوفير الخدمة الطبية لها. وأنشأ مستشفى «أرافيندا» في الهند، أكشاكاً لرعاية مرضى العيون ومتابعة حالاتهم، تحت إدارة نساء مدربات جيداً، وليس أطباء «باهظي التكاليف ومراوغين». تعمل هذه الأكشاك المتقدمة على فحص العين، ويجرى الاتصال رقمياً بالطبيب في المركز الرئيسي لإبلاغه بنتيجة الفحص، كي يقرّر نوع النظارة الطبية التي تناسب المريض، أو يقرّر أن حاله تقتضي عملية جراحية يُصار الى تحديد موعدها فوراً. الطب «يذوب» في الاتصالات دفعت هذه المُعطيات الشركات الكبرى إلى ولوج هذا المجال. ودخلت شركة «إنتل» الأميركية، عملاق صناعة رقاقات الكومبيوتر، في شراكة مع إحدى الشركات الهندية، لإنجاز مشروع تبلغ كلفته 250 مليون دولار ويهدف الى تسويق أجهزة متصلة بالانترنت تسمح للأطباء بمراقبة المرضى في المنازل. ويرى البعض أن المعدّات الطبية المنزلية ستختفي في وقت قريب، كي تذوب في أجهزة منزلية كالحواسيب والهواتف النقالة والملابس، بل ربما ذابت داخل أجسادنا بالذات. وفي هذا السياق، انتجت شركة «فيليبس» أغطية للأسرّة يحتوي نسيجها على أسلاك لمراقبة ضربات قلب المريض أثناء نومه. ويتصل ذلك بالموجة الحديثة في عالم المنتجات المتصلة بالتطبيقات الرياضية والصحية، مثل الأحذية المبتكرة والملابس المتطورة. وتستطيع التلفزيونات الرقمية المشاركة في تقديم خدمات طبية منزلية. وفي سياق الأجهزة التي تذوب في الجسم، صنعت شركة «بروتس بايوميديكال» في ولاية كاليفورنيا، رقاقة إلكترونية ذكية وصغيرة، يمكن وضعها داخل حبة الدواء العادية. وترسل هذه «الحبة الذكية» إشارة كهربية عند بلعها، فتُنقل الرسالة الى أداة رقمية للذاكرة يرتديها المريض، اذ تتولى إعادة بثها الى كومبيوتر المنزل. وفي حال ظهور مؤشرات مرض، يرسل الكومبيوتر آلياً رسائل إلكتروينة إلى الطبيب المسؤول عن المريض. في قول مختصر، يبدو ان التكنولوجيا باتت تسبق الخيال. وقبل سنوات قليلة، لم يكن كثيرون من الأطباء ليتخيّل حدوث هذا التطوّر، الذي نشأت عنه كمية هائلة من المعلومات تفرض الحاجة الى تدخّل الكومبيوتر في تحليلها، وإلى طبيب لديه القدرة على اتخاذ القرار. وبهذا، ظهر سؤال حول مدى قانونية قرارات الأطباء في مثل هذه الحالات. لقد بدأ الطب يتحرك من مركزية دور الطبيب، كي يعطي المريض دوراً متزايد الأهمية، خصوصاً في ظل أنظمة إلكترونية تحوي السجل الشامل للمريض. ويعد ذلك بإحداث تخفيض في النفقات الطبية، مع تقليص للأخطاء الطبية، وتحسين علاج الأمراض المستعصية. وراهناً، تشهد الانترنت ظهور مواقع إلكترونية يتبادل فيها المرضى قصصاً حول أمراضهم، ويناقشون عبرها التفاعلات السيئة للأدوية وجرعاتها، ما يدشن عصر الشبكات الاجتماعية الطبية، التي تتيح للمرضى تقاسم معلوماتهم الصحية وخبراتهم مع الآخرين. لقد أوضحت البحوث أن مواقع الشبكات الاجتماعية، مثل «فايسبوك» و «ماي سبايس»، لا تركز على المشاهير أو الرياضة، ولكن على الأمراض المزمنة بخاصة النفسية منها مثل الاكتئاب. ويُعتقد أن أكثر المُدوّنات تأثيراً في شبكة الانترنت هي التي تقدم للناس معلومات طبية دقيقة وذات صلة بالأمراض المزمنة. ويذهب بعض المراقبين لهذه المُدوّنات إلى أن إعلان جراح موثوق به عن رأي ما، يترك تأثيراً كبيراً للغاية في تحسين الرعاية الصحية يفوق ظهور بحث علمي محكم في دورية علمية راقية. ولا يعني ذلك الاستغناء عن الطب بصورته المعروفة لدينا راهناً. لكن التكنولوجيا الرقمية أطلقت ما يمكن اعتباره إصلاحاً في مسار الطب وليس ثورة. وخصص عدد من «مجلة الطب» البريطانية لهذا الموضوع. وورد فيه رأي لطبيب بريطاني مشهور، يعتبر أن الطب الرقمي مجال لتمكين المريض من اكتساب حقوق إضافية، على غرار ما حدث من انتشار للمعرفة والعلم عند اكتشاف المطبعة، وخروج المعلومات من تحكّم النُخب فيها.