هناك أناس يعيشون في هواجس تعكر عليهم صفو حياتهم وتجعلهم حبيسي القلق من عدم قبول ما يحتسبون عند الله من فعل الخير، وتتجلى تلك الهواجس عند الخوف الشديد من إحباط العمل وضياع الأمل في الحصول على الأجر بسبب الرياء أو عدم الإخلاص في ما يجزلون من عطاء أمام أعين الآخرين، فنسمع أحياناً عن أناس توقفوا عن الإنفاق في لحظات لوجود عشرات البشر حولهم، أو نجد من ترددوا كثيراً قبل إطلاق شهادة حق أو دعوة خير أمام العامة خشية من الشرك الأصغر، أو أن يقال عنهم إنهم لا يريدون من ورائها سوى الظهور أو استعراض العضلات، كما يقولون، وتلك النقطة اعتبرها أحد مداخل الشيطان الذي يتربص بنا ويقعد لنا كل مرصد لمنع أي محاولة لزيادة رصيد الحسنات. يأتي إبليس ويقول لك «لا تخرج تلك الصدقة أمام هؤلاء وانتظر حتى تصبح وحدك ابتغاء مرضاة الله في صدقة السر كي لا يراها أحد» وتضيع فرصة الإنفاق، وقد لا تجد مثلها مواتية مرة أخرى، أو يوسوس لك للامتناع عن أداء صلاة الفرض لأنك في مكان مكتظ بالسكان خشية أن تفعلها في غير مرضاة الله، والفيصل الذي يحكم في تلك النقطة هو القلب الذي هو ملك لصاحبه، والنية التي لا يعلمها إلا الخالق ثم صاحبها الذي عقدها واحتسب من ورائها ما احتسب، فيمكن أن تصلي ركعتين أمام رجل واحد وقلبك بعيد كل البعد عن الله ويملؤك شعور جارف بالرياء الذي يحبط كل لحظة من لحظات صلاتك، وقد تصلي أمام آلاف البشر وتظل مع ربك وحدك لا يهمك من يراك ولا تمر بذهنك شوائب الإشراك. من هنا يمكن لنا أن نضبط النية على أنقى القنوات لاستقبال الجزيل من الحسنات، لأن الرياء لا يقاس بعدد العيون التي تراك وأنت تحسن ولكن يتم حسابه بما يدور في ذهنك عند السعي في هذا الإحسان، وأتذكر أسئلة ومحفزات الرسول «عليه الصلاة والسلام» للصحابة عندما كان يقول أمام الجميع «من يفعل كذا... وله الجنة»، ولم نسمع عن أي منهم «رضي الله عنهم أجمعين» أنه خاف على نفسه من الأعين المحيطة به وانتظر الرسول «عليه الصلاة والسلام» حتى ينفرد به ويقول له أنا يا رسول الله أفعلها ولكن لم أرد أن أصرح بها أمام الآخرين احتساباً للإحسان في السر. وقصة أبي بكر معروفة لدينا جميعاً عندما سأل الرسول ذات يوم الصحابة وقال «من منكم عاد مريضاً اليوم»، فأجاب أبو بكر «أنا يا رسول الله»، وسأل أيضاً من وصل رحماً؟ ومن مشي في جنازة؟ ومن تصدق على معسر؟ وغيرها من أعمال الخير، وفي جميعها أجاب أبو بكر في سكينة واطمئنان للمردود من الرحمن «أنا يا رسول الله»، وهذا إعلان أمام الجميع خرج من خيرة من وطئ الأرض بعد الأنبياء من دون أي خوف من شبهة الرياء، والرسول العظيم كان يعلم ذلك تماماً، وقد أطلق الأسئلة أمام الجميع ليتعلموا الدرس وليكافئ أبا بكر أمامهم بالبشرى بدخول الجنة من جميع أبوابها. الشاهد أن الإحسان في العلن من باب القدوة الحسنة قد يعلم الآخرين أشياءً قد لا نستطيع أن نعطيهم إياها من خلال المحاورات ودروس المحاضرات، كل ما في الأمر أننا أوصياء على قلوبنا وعلماء بما يدور في صدورنا ونستطيع أن نفرق بين زبد الرياء الذي يذهب جفاءً، وبين الإخلاص الذي يرقى بالعطاء النافع للناس، وهو الذي سيشهد علينا أمام الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. [email protected]