تلتهم الأسئلة الكبرى في منطقتنا كمّاً هائلاً من طاقتنا في السعي لتبرير وتفسير نكباتنا ونكساتنا وتخلف حاضرنا عن حاضر العالم. ولا بأس من أجل علم التفسير والتحليل، من استحضار التاريخ، والاستعانة بالاقتصاد، والغرف من الأيديولوجيا، والمغامرة بالتنجيم المعرفي نوعاً ما. الجهد يتثاقل بين العلمي والشعاراتي، لكنه في المحصلة، يأخذ الأمر بالجملة بصفتنا أمة تتماهى هويتها وتذوب واحدة ضمن جغرافيتها. فلا اعتراف بالاختلاف بين الشعوب (فذلك اعتراف بتقسيمات سايكس – بيكو)، ولا إقرار باختلاف الهموم والهواجس بين أفراد هذه الشعوب. فالمنطقة كلّ، وحتى إشعار آخر يختفي المواطن لمصلحة الأمة، ويختفي الفرد لصالح مصلحة الأمة. وفي البحث عما نريد تطلعٌ كلاسيكي لما هو سائد في العالم. فالحرية والرفاهية والديموقراطية والتقدم والتكنولوجيا والتطور، كما الصمود والتصدي والممانعة والمقاومة، قيّم يتغنى بها عالم الآخر، فنتطلع إلى استقدام نموذجه بطلاً لنا نقتدي به ونحتذي مثاله. وربما استيراد الأبطال والنماذج عائد إلى ندرتها عندنا أو الكفر بصدقيتها في ديارنا. والتوق إلى البطل، قد يستدعي استدعاؤه من نسيج النقيض والعدو، وهي المفارقة الدراماتيكية الكبرى. الدكتور إياد السراج، طبيب نفسي، رئيس برنامج غزة للصحة النفسية (وهي من ظواهر النور التي قلّ أن نعلمها في غزة). والرجل، إلى ذلك، ناشط سياسي معروف، سجنته سلطة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لانتقاده أداء تلك السلطة في مجال حقوق الإنسان، إبان الحملة التي كانت تقودها ضد ناشطي حركة «حماس». الرجل يحظى، من خلال استقلاليته، باحترام كل الفرقاء، لا سيما «فتح» و «حماس»، ما أهله قيادة لجنة مستقلة (لجنة الوفاق والمصالحة الوطنية) لإصلاح ذات البين بين الفريقين المتنازعين، منذ «الحسم» بحسب التعبيرات الحمساوية و «الانقلاب» بحسب التعبيرات الفتحاوية. أياد السراج نال أخيراً أرفع جائزة عالمية في الطب النفسي (جائزة «جوان لوبيز إيبور لعام 2010»)، تخوله أن يكون مرجعاً (إضافة لخبرته الغزية) في الحالة النفسية العامة لأهل القطاع المنكوب (بأهله وأعدائه). يكشف السراج سلسلة من الوقائع التي طرأت على السلوك العام لأهل قطاع غزة. والأمر ليس مفاجئاً على مجتمع يعيش يومياته منذ عقود على وقع الاحتلال، ومنذ سنين على وقع الحروب (في الداخل ومن الخارج). ولا ريب أن ذلك التراكم ضخّم النزوع إلى العنف في النفس الإنسانية التي تفسر ظواهر العنف التي مورست في الحرب الفتحاوية - الحمساوية، من قذف من الطوابق العليا، ومن إعدام للجرحى، ومن إطلاق النار على الركب بغرض إحداث عاهات مستديمة الخ... بيد أن اللافت في قراءة الدكتور إياد السراج، هو ذلك اللبس الذي يسكن أطفال غزة في مسار البحث الطبيعي للطفل عن النموذج أو المثال أو البطل الذي يتوق لتقليده. ففي أبحاث حول هذا الشأن يكشف السراج، أن الأطفال الفلسطينيين يلعبون لعبة الحرب بقسم أنفسهم بين فلسطينيين ويهود، وأن الأطفال هناك غالباً ما يريدون في تلك اللعبة أن يكونوا يهوداً وليس فلسطينيين، فلعب دور اليهودي بحسب تحليل الطبيب النفسي، يمنحهم الشعور بالقوة والتفوق والسلطة. على أن البحث عن «إيدول» القوة، يقود المراهقين والشباب في ما بعد، إلى الالتحاق بالمجموعات المسلحة، كانتماء لجماعة ومنطق القوة، وهو ما يحمل الماء إلى طاحونة فصائل «الأمر الواقع»، في غياب نماذج تقليد أخرى. واللافت أن عملية تقليد نموذج العدو، تنسحب على الكبار أيضاً، على نحو مربك وصادم. ويروي الدكتور السراج أنه حين كانت تعتقله أجهزة السلطة، أجرى أحد الضباط تحقيقاً متوتراً معه، وأنه كان يطرح أسئلته التي كانت تُقابل بصمت أو إنكار من قبل السراج، الأمر الذي أغضب ذلك الضابط، فأخذ بالصراخ بمستويات متصاعدة، وصل إلى المستوى الأعلى عبر الصراخ باللغة العبرية مقلداً بذلك أداء المحققين الإسرائيليين. وتلك الحادثة قد لا تكون بعيدة، عما يطلق عليه ب «سندروم استوكهولم» الذي يفسر العلاقة الملتبسة بين الضحية والجلاد. قد لا يمكن التأسيس بشكل قاطع على تلك الوقائع لتعميم حالة أهل القطاع، بيد أن الأمر يستحق منا تسليط المجهر على معاناة الفرد التي لطالما تُهمل لفائدة المعاناة العامة. ففي الترويج للمعاناة العامة، وترشيق مظاهر الوطنية الجماعية، رفد لمنطق السياسة عند أولي الأمر في قطاع غزة. فالشعارات تنطلق (بدل الصواريخ التي ما عادت تنطلق هناك) متحدثة عن الصمود والمقاومة، وعطش الفلسطينيين للصدام المسلح مع المحتل، بينما لسان حال الفرد الفلسطيني، خوف وقلق ورعب من احتمالات حرب أخرى، ما زالت أهوالها ماثلة، مُعاشة، وذكراها مقيتة منفرّة في كل بيت في قطاع غزة المنكوب. وتجاهل قيمة الفرد ليست حكاية غزية فقط. فذلك هو السياق العربي الجماعي لدى النخبة الحاكمة كما لدى شعوب المنطقة. فحروب العرب هي حوادث تاريخية تذوب فيها الأرقام. فالمهم هو القضية، وعلى مذبح تلك القضية (التي ينفخ بها النظام السياسي، أو الفصيل والحزب المعارض على السواء) يسقط الفرد كتفصيل هامشي. وفي سقوط ذلك الفرد، وحقوق ذلك الفرد، تفسير لحالة الانهيار التي تعاني منها المنطقة برمتها في مجالات، التعليم، والاقتصاد، والاستشفاء، والتعبير، والتطور... الخ. ما زال الفلسطينيون (وربما كل العرب) يبحثون عن صورة البطل. فقد خلت الأرض من الأبطال، اللهم إلا تلك المنسية في كتب التاريخ، فيُصار إلى اجترارها كتباً ومسلسلات تلفزيونية. وفي غياب البطل يرتد الفرد إلى صورة البطل عند الآخر، سواء كان البطل شخصية سياسية عالمية (خلت الأرض منهم منذ غيفارا وصحبه)، أو شخصية عامة تعمل في مجالات السينما والموسيقى والموضة. بيد أن تقليد الأبطال المستوردين يحتاج إلى تحقيق إشباعات مستحيلة في مجتمعات ما زالت حائرة في تفاصيل الهوية والدين والمذهب، ومختلفة في التفريق بين ما هو انتصار وما هو انكسار، وممعنة في تمييز النكسة عن النكبة. ولا شك في أن تناول شأن الفرد بصفته قيمة أساس، والخلية الأولى للمجتمع، عتبة إجبارية لفهم النسيج العام. غير أن الأمر، لا سيما حين يتناول مكنونات الذات وهواجس النفس، كتلك الوقائع التي يتحدث عنها السراج، يصبح ضرباً من ضروب الترف الفكري لدى أصحاب القرار. والخوف أن تصبح العقلية الحاكمة (في السياسة والمجتمع والدين) عصبة منعزلة تائهة عن نوازع الفرد، أي الأفراد، أي المجتمع. وربما حري بنا جميعاً أن ننطلق في تفسيراتنا وتحليلاتنا للظواهر السياسية الكبرى التي تمر بها المنطقة من واقع حال ملموس، وليس من واقع حال متوخى. وما الفرد في رحلة البحث عن بطله (حتى في شخص عدوه)، إلا مختبر حيوي للملموس لا المتوخى. * صحافي وكاتب سياسي لبناني