بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة، أردت أن استكشف بعض بقايا هذا العملاق الذي دمرته بروسترويكا ميخائيل غورباتشوف، فذهبت إلى أوزبكستان ومنها إلى كازاخستان. في طاشقند عاصمة أوزبكستان رأيت مبنى المخابرات الروسية السابق (KGB) وقد حول تشكيليو المدينة جدرانه الخارجية إلى معرض للوحاتهم التي اقتنيت عدداً منها. من طاشقند سافرت إلى ألماتا عاصمة كازاخستان القديمة. في أحد الأيام خرجت سيراً على الأقدام من أمام مبنى بلدية الماتا، تجولت في المدينة، وفي مكان متواضع وسط المدينة، التي كانت وقتذاك تفتقر إلى أبسط مقومات العاصمة، وجدت نفسي أمام مبنى بسيط يحرسه عسكريان أشبه بالتمثالين الجامدين، فقدرت أن يكون المبنى متحفاً أو ما شابه ذلك، فقررت دخوله، ولما اقتربت من التمثالين، تحرك أحدهما بسرعة البرق وسحبني من قميصي وفي لمح البصر وجدت نفسي في الشارع. سألت المارة، ومعظمهم لا يجيدون غير الروسية، وأنا لا أجيد من الروسية سوى كلمتين، هما: «بلف» و«اربوز» الأولى أكلة شعبية تشبه الكبسة والثانية تعني البطيخ، وعرفت من بعض المارة الذين يتأتئون بالإنكليزية، أن المبنى الذي اعتقدته متحفاً هو مكتب رئيس البلاد، وعرفت لاحقاً أن اسمه: نور سلطانوف نزاربايف، الذي أصبح أخيراً يلقّب ب«ابوالكازاخ»، على طريقة عتاة الديكتاتوريين عبر التاريخ. يترأس الرئيس نزاربايف حزباً وضع اسمه الأول جزءاً منه، فسماه: «نور وطن» ومن هذا الحزب شكل نزاربايف البرلمان بأكمله من دون مراعاة لمشاعر معارضيه أو حقهم في المواطنة. هذا البرلمان الذي ينتمي جميع أعضائه إلى حزب «نور وطن»، أقرّ أخيراً تشريعات تكاد تجعل نزاربايف حاكماً مطلقاً للبلاد حتى بعد وفاته. نزاربايف الذي تجاوز السبعين من عمره، يريد أن تدين له «أستانا» العاصمة الجديدة لكازاخستان بالولاء حتى بعد موته، فأوعز للبرلمان بسن تشريعات بهذا الخصوص، وليضفي نوعاً من التواضع على «فخامته» طلب من أنصاره، بالتزامن مع التشريعات الجديدة، عدم المبالغة في احتفالات عيد ميلاده المقبل. التشريعات التي سنّها برلمان نزاربايف توعدت من يحرق صور الرئيس ب«الويل والثبور»، وأطلقت عليه لقب «ابوالكازاخ»، وجعلت منه شخصاً فوق جميع القوانين، وأضفت عليه هالة من القداسة يُعفى بموجبها من تحمّل تبعات أي قرارات سياسية اتخذها هو بنفسه، ليس هذا فحسب، بل إن التشريعات الجديدة تمنحه حصانة أبدية حتى وإن غادر مقعد الرئاسة، وهو لن يغادره إلا إلى قبره، بعد عمر طويل. كما تتضمن التشريعات الجديدة بنداً واضحاً وصريحاً مفاده أن أي اعتداء على الزعيم أو تهديد حياته يعتبر عملاً «إرهابياً». لست أدري بعد كل هذا التبجيل لرئيس انتزع السلطة في غفلة متعمدة من الجيش الروسي سنة 1991، كيف سندافع – نحن المسلمين – عن صورتنا لدى الآخر، ولدينا رؤساء يتفنون بشرعنة الديكتاتورية بقوانين باطلة أصلاً؟! إذا استطعنا – نحن المسلمين أيضاً – أن نقنع الغرب بأن الإرهابيين لا يمثلوننا وإن كانوا مسلمين، فكيف سنقنعهم بأن هذا الديكتاتور أو ذاك، ليس منا وهو يصلي ويصوم وينتسب إلى الإسلام ديناً من دون أن يراعي جوهره؟! الكازاخ شعب جاف وشرس بحكم جغرافيته، وهو أعنف مما يتصور نزاربايف وحزبه المصبوغ باسمه، وعليه أن يتوقع سيناريو دموياً وعنيفاً، وإذا ما كان نزاربايف سنّ هذه القوانين لحماية نفسه، بعدما أطاح الشعب القرقيزي بزميله الرئيس المخلوع كرمان بيك باكايف، وراحت الحكومة القرقيزية الجديدة تلاحق باكايف قانونياً، فإن نزار بايف مخطئ لأن التشريعات التي سنّها برلمانه غير قانونية في الأساس، وبالتالي من السهل إلغاؤها في البرلمان ذاته. ولي أن أتساءل، بعد أن تناسخت الديكتاتوريات بعضها بعضاً في آسيا الوسطى، فمن «أبو التركمان» إلى «أبو الكازاخ»؟ هل للموقع الاستراتيجي لدول آسيا الوسطى، وأهميتها لكل من روسيا والولايات المتحدة والصين، دور في تحوّلها من دول تدعي التحرر والديموقراطية، إلى محميات خاصة لرؤساء كانوا حتى تسلمهم الرئاسة قياديين في الحزب الشيوعي؟! إنه تساؤل بريء وليس محاولة لإسقاط نظرية «المؤامرة الغربية» على «الإسلام» من خلال خلق «ديكتاتوريات إسلامية» رسمية في آسيا الوسطى.