أتى تشكيل الاتحاد الأوروبي تجسيداً لحلم أوروبي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، يرمي الى تحقيق وحدة أوروبا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكانت قد سبقته خطوات مهمة أدت الى إنشاء الأسرة الأوروبية والسوق الأوروبية المشتركة، والنظام النقدي الأوروبي وغير ذلك. والمبادئ والأهداف التي ما زالت أوروبا تسعى في تحقيقها تم تحديدها في مؤتمر باريس عام 1999 الذي ساهمت فيه 35 دولة تطلعت الى تكوين «البيت الأوروبي الكبير» الذي طرح فكرته ميخائيل غورباتشوف. وتطلع الاتحاد الأوروبي نحو توسيع مداه بضم بلدان أوروبا الوسطى والشرقية وجذب روسيا اليه. وساعد على ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي وجدار برلين، وتوحيد المانيا، وانتهاء الحرب الباردة. وتعاون الدول الاشتراكية السابقة مع الاتحاد الأوروبي، وانضمام ثماني دول منها اليه، ساعدها على بناء أنظمة سياسية ديموقراطية واقتصادية ليبرالية، وأمن لها دعما مالياً واقتصادياً واجتماعياً، جعلها قادرة على تحقيق مشاريع تنموية مهمة، وزيادة معدلات النمو، وفتح لمواطنيها سوق العمل الأوروبية، ما خفف عنها ضغط البطالة المرتفعة ومستويات المعيشة المتدنية. ويضم الاتحاد الأوروبي حالياً 27 دولة، وحلف الناتو 26 دولة. لكن محاولات اجتذاب روسيا اصطدمت بعوائق جدية، أهمها سياسة الغرب التي ركزت في تسعينات القرن الماضي على دفع روسيا الى التقدم باتجاه إقامة نظام سياسي ديموقراطي ونظام اقتصادي ليبرالي، وحماية حقوق الإنسان، وتطوير مؤسسات المجتمع المدني. وأدى ذلك الى بروز موقف معاد للغرب، يتهمه بالتدخل في الشؤون الروسية، وفرض رؤيته وسياساته عليها. وتكرس هذا الموقف في عهد فلاديمير بوتين منذ عام 2000، الذي بنى سياسته الداخلية على التسلط والحد من الحريات وإخضاع القضاء لمصالح النظام السياسي. وساهمت في تعقيد علاقة الغرب بروسيا أسباب جوهرية أهمها: سعي بوتين في استعادة روسيا لأمجادها القديمة، وفرض وجودها على الساحة الدولية، انطلاقاً من التحولات الحاصلة المؤدية الى نشوء «عالم متعدد القطب»، وتصوير الغرب للروس بأنه عدوهم الأساسي. وتعاظم هذا الاتجاه في السياسة الروسية جراء قرارات الولاياتالمتحدة نشر عناصر الدرع الصاروخية الأميركية وإنشاء قواعد عسكرية في أوروبا الشرقية، وتوقيع «الناتو» شرقاً باتجاه الدول السوفياتية السابقة التي تعتبرها روسيا مناطق مصالح حيوية لها. إضافة الى محاولات الاتحاد الأوروبي تطوير التعاون مع هذه الدول، بواسطة مشروع «الشراكة الشرقية» وغيره. وذروة الأزمة التي أصيبت بها العلاقات الروسية – الغربية، نشأت بعد حرب روسيا ضد جورجيا في آب (اغسطس) 2008، والتي أدت الى سلخ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا وإعلانهما دولتين مستقلتين بإشراف موسكو وقيادتها. وهذا الحدث شكل مفصلاً مهماً في علاقة الاتحاد الأوروبي بروسيا، الذي أصيب بالخوف والقلق والحذر جراء إظهار استعدادها لاستخدام القوة المسلحة لحل النزاعات الإقليمية. وفي عام 2007 في ميونيخ عبر بوتين عن مواقف روسيا تجاه الغرب ومطامحها الذاتية. وانتقاداته له ركزت على عدم بذل الجهود لنزع التسلح والرقابة عليه، ومنع انتشار السلاح النووي، وتطوير التعاون الاقتصادي المحدود. وانتقد أيضاً منظمة الأمن والتعاون في أوروبا التي يحاول بعض أعضائها تحويلها الى أداة لتدعيم مصالح سياسية خارجية لبلد معين أو مجموعة من البلدان، وهي قامت أصلاً لتدعيم التعاون الأوروبي في مجالات الأمن العسكري والسياسي والاقتصادي والإنساني. وتحميل بوتين الغرب مسؤولية تدمير التوازن القائم أرفقه بدعوته الى الاعتراف بروسيا كشريك متساو في الحقوق، ومراعاة مصالحها الحيوية، ما يدفعها نحو التعاون الدولي. ولم تلق الصدى المطلوب دعوة دميتري ميدفيديف من برلين عام 2009 بعقد مؤتمر أوروبي شامل، يشكل أساساً لمعاهدة أوروبية في مجال الأمن بمعناه الواسع. مع أن الاتحاد الأوروبي يعي تماماً الحاجة الى التعاون مع موسكو، لوجود مصالح مشتركة بين الطرفين في مجالات الأمن والسياسة الخارجية، ومنع انتشار السلاح النووي، ومواجهة الإرهاب، وحل مشكلة أفغانستان والشرق الأوسط. ويلتقي مضمون دعوة ميدفيديف مع مبادئ مؤتمر باريس، وهي تتطلع نحو تحقيق الأمن الأورو-أطلسي على المساحة الممتدة بين فانكوفر وفلاديفوستوك. وتحتل مسألة أمن الطاقة مكاناً مهماً في العلاقات الروسية – الأوروبية حيث تؤمن روسيا لأوروبا نسبة مهمة من مصادر الطاقة. وتساهم موسكو في مجلس روسيا – الناتو، وفي مجموعة الدول السبع، واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ويجرى التحضير لانضمامها الى منظمة التجارة العالمية. وروسيا بحاجة ماسة الى التكنولوجيا الأوروبية المتطورة لتحديث صناعتها واقتصادها، وتراهن على باراك اوباما المنفتح لتحسين علاقتها بالغرب، وكذلك على دول أوروبية أساسية في مقدمها المافيا وفرنسا. ولا ريب في ان توسيع الاتحاد الأوروبي وتعميقه رفعا من قدرة أوروبا على تحقيق استقرارها. مع ان أهداف التكامل الأوروبي وآفاقه ما زالت غامضة، وهي تتأرجح بين تكوين منطقة للتجارة الحرة واتحاد جمركي، وبين إنشاء الولاياتالمتحدة الأوروبية على النمط الأميركي. وليس واضحاً إذا كان المحرك الألماني – الفرنسي لنجاح التكامل الأوروبي ما زال فاعلاً حتى الآن، ووصول المحافظين في إنكلترا الى السلطة من جديد قد يعوق التقدم الأوروبي الشامل باتجاه التكامل. والمشكلة الأساسية في نظر فورست تيلتشيك تتلخص في تحديد الجهة القادرة على قيادة أوروبا لصوغ سياسة صحيحة يعتمد عليها الاتحاد الأوروبي لبناء علاقته بروسيا، والقيام بعملياته الداخلية، وفي إطار الأسرة الأطلسية بكاملها. وإيضاح أوروبا مطالبها وحاجاتها للأميركيين يمنحها فضاء ضرورياً للمناورة، وهي بحاجة ماسة الى مصادر استلهام غير متوافرة، وإدراك أهمية تحقيق السلام في أوروبا والعالم لمصالحها المستقبلية. وكان لا بد من ان تنعكس الأزمة المالية العالمية سلباً على أوروبا، حيث أدت الى بروز الركود الاقتصادي وانعدام النمو. ومن أهم نتائج الأزمة هذه التحول الى «عالم متعدد القطب» يعتمد على صعود قوى اقتصادية عالمية جديدة كالصين والهند وروسيا والبرازيل، وهي لا بد من ان تصبح أيضاً قوى عسكرية وسياسية مهمة وازنة عالمياً. وسيؤدي ذلك الى حصول تغييرات اكثر جذرية في العلاقات الجيوسياسية الدولية، ونهاية عصر الإمبريالية الأوروبية، ونشوء «عصر الإمبراطوريات الجديد». ولكن من دون ان يعني ذلك أفول نجم الولاياتالمتحدة وتوجهها نحو العزلة. وهي بعدما قادت العالم لنشر الديموقراطية واقتصاد السوق تتجه حالياً الى حل مشاكلها الداخلية الملحّة، وتكوين مجتمع مفتوح وحر، وجر العالم الى ترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية. وعلى رغم استعادة أوروبا مواقعها على الساحة الدولية، إلا أنها كانت عاجزة عن صوغ سياسة خارجية واضحة المعالم وكاملة، وأن تكون بديلاً من «ثنائية القطب» المؤلفة من الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، واعترفت بقيادة هذه العالم، بدوافع إيديولوجية وعسكرية واستراتيجية وثقافية، ونظراً لتقارب المصالح. مع أنها حاولت أيضاً التعبير عن رغبتها في الاستقلال بسياساتها الدولية، فرفضت الحرب ضد العراق، مع دعمها لأميركا في محاربة الإرهاب الدولي. وإذا كانت «الدولة الوطنية» المنتصر الأساس جراء الأزمة المالية العالمية، الاّ انها تبقى عاجزة في ظل الظروف المستجدة عن مواجهة التحديات العالمية الشاملة، مهما كانت ضخمة وغنية، بعكس الإمبراطوريات الجديدة. ويوضح غي فيرخوفستادت أن الإمبراطوريات هذه عبارة عن تكوينات ومراكز إقليمية عالمية سياسية واقتصادية قائمة على التنوع والتعدد الحضاري والثقافي، وتعتمد على مؤسسات سياسية جديدة، تنشأ بواسطة مجتمعات مفتوحة وحرة تتنافس في ما بينها على المستوى الشامل، تبني الجسور بدلاً من الجدران، وتبذل جهودها في سبيل النمو الاقتصادي والتنمية، وتعبئ الطاقات الضخمة لحل المشاكل الإقليمية والعالمية. والنظام العالمي الجديد سيعتمد على تنوع الإمبراطوريات والحضارات، عوضاً عن هيمنة حضارة واحدة معينة وسيادة دولة عظمى على العالم بأسره. وتعتمد مواجهة الأزمة المالية العالمية عالمياً على الوطنية الاقتصادية أو الشكل التعاوني، أو كليهما، وهي ترمي الى إنفاذ الثروات الوطنية وإعلاء شأن الأمم فوق اعتبارات التعاون الدولي. وتلجأ الدولة الى حقن الاقتصاد بمواردها المالية، أو التأميم لتجديد نشاط المصارف وشبكات التأمين التي فقدت قدرتها على تسديد التزاماتها، وإعادة الثقة بين المؤسسات المالية. وإذا كانت التدخلات هذه ترمي الى إنقاذ النظام المالي من الانهيار، فإن الخطورة تكمن في تحولها الى مخدر قاتل ومدمر لحوافز الإدارة الفاعلة داخل المؤسسات المالية، حيث لا تفرق الدولة بين المؤسسات الناجحة ذات القدرات المالية الجيدة، وبين المؤسسات المتعثرة والعاجزة، ما يضر كثيراً بمبدأ المنافسة الذي يعتبر من أهم مبادئ الاتحاد الأوروبي، والأنظمة الاقتصادية الليبرالية. أما «الأرصدة السيادية» أو «صناديق الرفاهية الوطنية» المكونة حديثاً بحجة حماية مصالح أوروبا الاستراتيجية، ومنع الصناديق الأجنبية المماثلة من ابتلاع الشركات الأوروبية المتعثرة، فهدفها الحقيقي هو تدعيم سياسات حماية الصناعة الوطنية مع ان الشركات الأميركية والأوروبية لا تتورع عن مثل هذا الابتلاع في الخارج، وتبرره بسيادة العولمة. والتدخلات هذه في إمكانها تعريض الأوضاع المالية للخطر، وإلقاء أثقال ديون إضافية على كاهل الأجيال القادمة ورهن مستقبلها. ويصعب تأمين حاجات السكان المتقدمين في السن في ظل وجود دين حكومي كبير وعدم توافر موارد تقاعدية مهمة. وتحميل العولمة المسؤولية عن نشوء الأزمة المالية العاملية يفتقر الى المنطق السليم الذي يرفض الدعوة الى الانغلاق على الذات ضمن الحدود الوطنية، فقد اصبح مستحيلاً إيقاف العولمة المترسخة والمنتشرة عالمياً، على رغم ان الرقابة على الاقتصاد المعولم تتم بدرجة كبيرة في الإطار الوطني، وإداراته السياسية مفقودة عملياً. ولا ريب في ان الركود وتباطؤ النمو الاقتصادي وتطوره ستجر البلدان الغربية الى القيام بتغييرات اقتصادية جذرية. ومع ان الأسواق المالية يجب ان تدار بقساوة، غير انه لا يجب المغالاة باستخدام اواليات تنظيم السوق، أو تقوية الضبط المالي بالاعتماد على أساليب أو وسائل الليبرالية المتنامية في السياسة الاقتصادية الكاملة. ويبعث على قلق الكثيرين في أوروبا التشكيك بأهمية توازن الموازنة العامة للدولة، بالقدر نفسه الذي يدافع فيه عن التأميم. ومن الوهم الاعتقاد بأن الانتصار على الركود يمكن ان يحصل باللجوء الى عجز الموازنة. وإزالة مخاوف المواطنين المقتصدين والحريصين ممكنة فقط باتخاذ إجراءات واقعية وقاسية لمواجهة أسباب الأزمة المالية، بدلاً من النفخ المصطنع في قدرة العائلات الشرائية. وهؤلاء سيتجهون نحو الادخار وليس الإنفاق. والبلدان التي تتميز دولها بمديونية كبيرة والافتقار الى احتياطات تقاعدية مهمة، لا يمكنها السماح لنفسها بزيادة نفقاتها عن مداخيلها. ووجود عملة أوروبية موحدة (اليورو) كان مفيداً للحد من تأثيرات الأزمة المالية العالمية السلبية في أوروبا. ولا شك في أهمية القرارات الأخيرة المتخذة لتطوير التكامل الاقتصادي الأوروبي وتدعيمه، بتوحيد نظام الضوابط النقدية والمالية الذي بدأ مع إنشاء المصرف المركزي الأوروبي، عبر إنشاء أجهزة مناسبة للرقابة المصرفية والمالية والتأمينية، وعلى أساس التعاون والتنسيق بين السلطة المالية المركزية الموحدة في الاتحاد الأوروبي والسلطات المالية الوطنية. وعلى ما يرى ممثل المفوضية الأوروبية اميليا باوليسا، فإن جوهر المسألة يتلخص بالنجاح في إيجاد قواعد موحدة لضبط النشاط وإدارته في الأسواق الأوروبية. ويبدو ان في الظروف العالمية الراهنة، لا بد لأوروبا من السير بحسم وجرأة نحو تطوير تكاملها وتعزيزه. وإذا كان انهيار النظام الاشتراكي عام 1989 في وسط أوروبا وشرقها قد أكد انتصار الديموقراطية واقتصاد السوق الحرة الرأسمالية، فإن الأزمة المالية العالمية التي ما زالت مستمرة منذ عام 2008، تبرهن على وجود عقبات وقيود جدية تواجه الرأسمالية الجامحة. وقد اصبح واضحاً أن مواجهة الأزمة هذه لا يمكن ان تنجح باللجوء الى إجراءات اقتصادية وطنية استثنائية، بل بعقد معاهدة مالية دولية تؤمن للاقتصاد العالمي نظاماً موحداً للإدارة الشاملة والرقابة في كثير من مجالات النشاط المالي - الاقتصادي. ودعم الاتحاد الأوروبي القوي والصريح لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة يعتبر خطوة مهمة على طريق حل أزمة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الطويل. وهو يفتح أمام أوروبا باباً واسعاً لتعزيز صلاتها بالعالمين العربي والإسلامي، حيث تملك مصالح اقتصادية واستراتيجية كبرى في منطقة الشرق الأوسط. وعلى ما يرى مفوض الاتحاد الأوروبي الى الشؤون الخارجية سابقاً كريس باتين فإنه يجب الربط بين سياسات الاتحاد الداخلية والخارجية بصورة وثيقة، وأن أقوى إنجاز حققه هو توسيعه ما ساعد على إحداث تحول في النظام السياسي وتثبيته من دون اللجوء الى القوة. وعلى أوروبا الربط بين مصالحها ومصالح الولاياتالمتحدة، واتباع سياسة حازمة مع روسيا الساعية في التوسع، وعدم التردد بتطبيق معايير الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وقبول تركيا العضو في الناتو والمهمة اقتصادياً واستراتيجياً في عضوية الاتحاد الأوروبي، ما يفتح أمامها باباً واسعاً لتعزيز صلاتها بالعالم الإسلامي. وسياستها تجاه إيران يجب ان تستمر انطلاقاً من تعارض السياسة الإيرانية النووية مع مصالحها. ولا بد لها أيضاً من الاعتناء بتنمية أفريقيا وتطويرها، ودعم وجود أنظمة حكم عقلانية وحكيمة فيها، والتعاون بين كل بلدانها. ووجود نظام دفاعي مشترك يعتمد على ترسانة جبارة من الأسلحة الحديثة المتطورة، يعتبر حاجة ماسة للدفاع عن نفسها في وجه المخاطر المحتملة. وتقتضي الضرورة ربط مصالحها بمصالح الولاياتالمتحدة على ان تبقى الشراكة معها في سبيل السلام ضمن الأطر الواقعية. والمشكلة الأساسية تبقى في ان الاتحاد الأوروبي ليس دولة فوق الدول، وأن البلدان الأعضاء فيه تسعى عادة الى التأثير فيه لخدمة مصالحها الذاتية. وإذا ما بقيت أوروبا ماضية في سياستها، واقتصار طموحها على تعزيز وحدتها في إطار سوق جمركية ناجحة وانتهاج سياسة خارجية على النمط السويسري وفي وجود مسؤولين مختلفين ومتباعدين، فمن المرجح «ان تخسر أهليتها السياسية كلها». * كاتب لبناني.