ينأى الشاعر اليمني مبارك سالمين بشعره من التكرار. وهو يعد نفسه مجرد لاهٍ. سعياً إلى اللحظة التي يشمخ فيها النص بكدح الشعرية دون سواها. وقال سالمين الذي يستعد لإصدار مجموعة شعرية ثالثة بعنوان «الكرسي» إن ما أنجزه لا يعدو أن يكون مجرد عتبة، وإنه لا يستطيع الجزم بأنه قد تجاوز حتى نفسه. وهو يعتبر القصيدة متن الشاعر وحياته. وجل ما يخشاه أن تسبق الأيديولوجيا الشعر، فهي إن سبقته فإنها تكون قد قادت الشعر وقادت نفسها إلى الهلاك. مؤكداً أن البهجة التي يخلفها الإيقاع هي أقرب إلى السياسة منها إلى الشعر. فيما يأتي نص الحوار: في خضم هذه الانشغالات... قيادتك لفرع اتحاد الأدباء والكتاب في عدن والعمل الأكاديمي وغيره. تبدو متباعداً عن القصيدة؟ - القصيدة ليست خارج الشاعر. هي الشاعر في حالة من حالات تجسّده. لا يمكن الفصل بين الشاعر ونصه لأن هوامش النص تكمن في حياة الشاعر. ربما كان النص ظاهرة قشرية، لكن المتن الرئيسي هو حياة الشاعر، نصه. أنا شخصياً لا أستطيع أن أفرق بين الشاعر ونصه. هل نفهم أن هم الشعر مازال حاضراً لديك؟ - بالتأكيد الكتابة الشعرية مازالت حاضرة لديّ على رغم انشغالي بالكثير من الاهتمامات العلمية التي تفرضها عليّ وظيفتي كأستاذ جامعي ورئيس قسم الخدمة الاجتماعية في جامعة عدن. ربما فرضت عليّ هذه الوضعية دوراً مختلفاً هو دور أكاديمي مشبع بالوقار بعيداً عن طبيعة الشاعر. لكن بالتأكيد يظل هم القصيدة وارداً، وتظل القصيدة في حالة كمون تتشوف خروجاتها بين الحين والآخر. لكن ربما ضعف الانشغال كلية بالقصيدة وربما عدم النشر من العوامل التي قد تظهر الشاعر وكأنه غير مكترث بنصّه الشعري. وهناك شيء مهم جداً وهو أنه وفي ظل كثافة الإنتاج الشعري اليمني كثير من الشعراء ينكفئون في داخلهم بحثاً عن نص مختلف. نص مميز. شخصياً أقدس الشعر واحترمه، لهذا لا أريد أن أكرر نفسي ولا أريد أن أكرر الآخرين. ألم تنجز شيئاً؟ - أنجزت بعض النصوص، ولديّ ديوان قيد الطبع عنوانه «الكرسي». لكنني اسمي هذا كله عتبة إنجاز. مبتدأ لنص أنشده أو لمشروع شعري أتمنى أن يعينني الرب عليه. هل ننتظر تجاوز ما في نصوص «الكرسي»؟ - مسألة التجاوز ليست واردة بالمعنى العام. لأن تطور الحساسية الشعرية أمر دقيق وعلى قدر عالٍ من الأهمية. لهذا لا أستطيع حقيقة أن أبشّر أو أقول إن هناك إنجازاً مهماً. ما أعرفه أنني مازلت في مرابع العتبة. ألهو كشاعر طفل. أبحث عن غيماتي هنا وهناك. مازلت أبحث عن مزيد من التجريب. أبحث عن ذاتي. أنشد لحظة تفاعل حقيقية مع الطبيعة والكون. مازلت أتشرّب من تجارب الآخرين. الذين أرى أنهم على قدر كبير من الأهمية. ولا أستطيع الجزم بأنني تجاوزت حتى نفسي الضعيفة. لكنني أحلم ولعل الحلم أساس مهم في الإبداع. الشيء الذي يمكن أن أؤكده هو أنني مازلت أحلم. هذا الحلم يمكن أن يصنع قاعدة لنص قد يشمخ ذات يوم. يشمخ مني ومن كدحي. نواجه أحياناً ماهية زلقة وغير متعينة لمفهوم القارئ بحيث يصعب تحديد معنى المتلقي المعني بحكم الجودة؟ - لا تؤخذ المسألة على هذا النحو. لأننا في ميدان الإنتاج الشعري لسنا في صالة تمارين. يعتمد جوابي على مجموعة من الانزياحات اللغوية، لكنني أرجع وأقول إننا لسنا في صالة تمارين لكي نقيس من خلالها درجة تأثر الجمهور بقصيدة ما أو بشاعر ما. لسنا في ميدان تعليم الناس كيف يتذوقون القصيدة، لكننا نضع معاييرنا في النص من خلال أن يتوجه هذا النص بإشاراته الضوئية المختلفة إلى جمهور المتلقين. فمرة يعلن عن إشارة خضراء هي أقرب إلى شريحة ما من المتلقين، وتارة يعطي إشارة حمراء تحتاج إلى كثير من الكدح المعرفي للاقتراب منها. ومرة يعلن ضوءاً برتقالياً ليبدأ سير الاحتمالات، بتدفق، نحو المتلقين. أظن أنها معادلة صعبة ومركبة ومعقدة وتحتاج إلى عبقرية شعرية ليست بالأمر السهل والهين. في ما يتصل بإنتاج النص الشعري، أعود وأكرر أن استخدامي هنا لبعض المصطلحات القريبة لحقل الاقتصاد هي استخدامات انزياحية في إطار المجاز اللغوي ويجب ألا تؤخذ ببعدها الاقتصادي. تبدو الأيديولوجيا مهيمنة على الفضاء الشعري اليمني، وهي أحياناً تحايث الحنين إلى الماضي، في رأيك ما مدى وقع الايديولوجيا في الفضاء الشعري اليمني؟ - في الفضاء الشعري اليمني هناك أصوات تحاول جاهدة أن تنفض عن نفسها غبار الايديولوجيا، من اجل انتصار الفن ومن اجل أن تنتصر القصيدة. لكن تطهر النص من الايديولوجيا بشكل كلي أمر ما زال في الأعالي. أمر ليس في المتناول. ما زال النص الشعري اليمني يخضع لكثير من الاملاءات. ما زال واقعاً في شراك السياسة بما هي تعبير فج عن الايديولوجيا على رغم الخطى الحثيثة التي ما انفك النص الشعري اليمني يخطوها نحو الفن، إلا أنه ما زال واقعاً تحت تأثير الأفكار والصراعات الاجتماعية. أنا لا أطالب النص الشعري بان يتخلص من كل هذا، لكنني أتمنى أن يتخلص من أعبائه تلك التي تثقله. اعتقد شخصياً أن النص الشعري اقرب إلى الأثير وعليه أن يتخلص من أعبائه. أعود وأؤكد مرة أخرى أن النص الشعري اليمني سيظل قابعاً تحت تأثير السياسة والايديولوجيا ومتأثراً بها وأخشى أن أقول تابعاً. لكن هذا القول ليس قولاً متشائماً ولا يلغي وجود بعض الومضات الجميلة التي استطاعت أن تتخفف من الايديولوجيا واستطاعت أن تتخفف من وطأة السياسة. بل واستطاعت أن تتخفف أيضاً من ظروف السائد الشعري. لأن الشعر ليس له مكان إلا في المقدمة. وهو جدير بان يبقى هكذا. في طبيعة الأشياء. لأن الشعر نتاج مركب ومعقد ومميز. هو جوهر الكثير من الفنون. هل يفترض بالشاعر أن يلعب دوراً عاماً أو وظيفة اجتماعية؟ - أنا شخصياً لا اطلب من الشاعر أن يتخلى عن وظائفه الاجتماعية. لكنني أطالب القصيدة بأن تتخلص من الفجاجة ومن أن تجير نفسها لأشياء أخرى مختلفة. لكن هذا لا يلغي الدور التنويري والمعرفي للقصيدة. وبحسب كارل ماركس إذا أردت أن تصيب الهدف فعليك أن تبتعد قليلاً لأنك لن تستطيع أن تصيب الهدف من قرب. والشاعر إذا ما أراد أن يمارس شعراً وظيفياً فعليه أن يبتعد قليلاً. هذه المسافة التي تفصلك عن الهدف يشغلها الفن والمتعة المعرفية. تشغلها اللحظة التفاعلية بين الشاعر والمتلقي. وهل الفن محكوم بعلاقة الصياد والطريدة؟ - ليست بهذه الحدية. ليس ثمة صياد أو طريدة. لكنه اختيار اللحظة التي يصبح فيها الفن فناً. يذهب علماء الاجتماع إلى اعتبار الفن واحداً من أهم الضوابط الاجتماعية لأنه - الفن - يشير إلى المحبذ وغير المحبذ في السلوك. لكن هذه الإشارة أو تلك إلى ما هو محبذ وغير محبذ يفترض ألا تكون إشارة فجة لتحقق أهدافها. هذا إذا افترضنا أن للشعر وظيفة اجتماعية أيديولوجية. نقرأ كثيراً من النصوص يلتبس فيها الغامض الفني بالمباشرة الرخيصة. في هذه النصوص لا ينتصر الشعر ولا تنتصر القضية المعنوية التي يتكرس الشعر من اجلها. نفهم من هذا انك تعطي دوراً اجتماعياً للشعر لكن بشروط؟ - أنا لا أعطي الشعر وظيفة اجتماعية. أنا أقول انه حتى في حال افترضنا جدلاً أن للشعر وظيفة اجتماعية أو سياسية، فان عليه أن يبتعد قليلاً عن الهدف لمصلحة الفن. شخصياً اعتقد أن للشاعر الحق في أن يمتح من أي المناهل والجهات. وان يكتب كيفما شاء. وحتى في ما يتصل بوظيفة الشعر أو الفن فتأثير الفن يأتي لاحقاً. ليس بالصورة المباشرة. الفن عموماً والشعر تحديداً، إذا ما افترضنا جدلاً أن له وظيفة، فان على هذه الوظيفة أن تتأخر قليلاً. أن تغير جدولتها. إذا تحققت في نص شعري أو بسببه فيجب ألا تكون في الصدارة. بل تأتي تالياً. بمعنى أن تأثير الشعر في جمهور المتلقين لا يمكن أن نرصده أو نحسه كما نحس بالأشياء المادية المباشرة. إذا كانت القصيدة على قدر عال من الفنية سيكون تأثيرها لاحقاً.يجب ألا يركض النص نحو وظيفته الاجتماعية. لأن هذه الوظيفة تتحقق تفاعلياً وليس بصورة مباشرة.