لماذا يهاجر مصريون؟ وإلى أين يهاجرون؟ وهل يعودون؟ وكيف ينفقون أموالهم المكتسبة في المهجر؟ أسئلة كثيرة باتت لا تخطر على بال المصريين. والسبب ليس نقصاً في الاهتمام، أو معرفة الأسباب، بقدر ما أصبحت هجرتهم ظاهرة من ظواهر الطبيعة ومساراً من مسارات أكل العيش وتحسين مستوى المعيشة. صاموئيل (27 سنة) الذي عاد من ليبيا بعد سنوات من العمل ورفه العيش المنعكس على أسرته برمتها في سوهاج، حوّل دفة هجرته إلى الكويت بعدما أصبحت الأوضاع في ليبيا بالغة الخطورة. صاموئيل ووالداه وزوجته وأسرتها يتعجبّون كثيراً من كلمة «هجرة» في الإشارة إلى عمله وإقامته خارج مصر. «إنها ليست هجرة، مجرد أكل عيش». لكن نهايات المراحل وبداياتها وطبيعتها وأنماطها اعتبرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر أمراً بالغ الأهمية، ما أدّى إلى مسح قومي للهجرة الدولية. وقد أعلنت نتائجه قبل أيام كاشفة أن الدول العربية هي المقصد المفضل، أو ربما المتاح، للغالبية العظمى من المهاجرين الحاليين أو ممن عادوا. وتتراوح أعمار النسبة الأكبر من المهاجرين المصريين (حوالى 70 في المئة بين 20 و39 سنة، تليهم الفئة المتراوحة أعمارها بين 15 و19 سنة، ولا تتجاوز نسبة الإناث في الفئات كلها 2 في المئة. صاموئيل المنتقل من صعيد مصر حيث قريته في محافظة سوهاج، ومنها إلى القاهرة حيث حاول والده قبل سنوات تدريبه على العمل مساعداً له، لكن عمل الحارس لم يرض غروره أو طموحه أو تطلعاته المادية، نموذج متكرر ملايين المرات. فهو حاصل على ديبلوم، واعتبر نفسه متعلّماً تعليماً معتبراً لا يصح أن يهدره في الزراعة في قريته أو عمل البواب كوالده في القاهرة. فسافر إلى ليبيا حيث عمل في مجال البناء (عامل باليومية) وعاد منها قبل نحو عامين. ثم وجد فرصة تليق بمكانته، إذ اشترت أسرته قطعة أرض صغيرة في المرج (شرق القاهرة) وشيّدت بيتاً عليها من طابقين قابلين للتعلية، ما يُعد ارتقاء كبيراً للأسرة على السلم الاجتماعي والاقتصادي. ويلقي ذلك أيضاً الضوء على «لماذا يهاجر المصريون؟» و»كيف ينفقون الأموال التي يدخرونها أثناء هجرتهم؟» يقول رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء اللواء أبو بكر الجندي، أن 87 في المئة هاجروا لأسباب اقتصادية. وحددت البنود الاقتصادية في: تحسين مستوى المعيشة، عدم كفاية الدخل في مصر، نقص فرص العمالة المتاحة، جاذبية الأجور المرتفعة وفرص العمل الأفضل في الخارج (بلدان الخليج وليبيا). وتتصدر السعودية لائحة البلدان العربية المستقبلة للهجرة من مصر، ويعيش هناك حالياً حوالى 40 في المئة من إجمالي المهاجرين المصريين، وتليها بلدان مثل الكويت والأردن والإمارات. نسبة طاغية من الأسر المصرية لديها أو كان لديها، أو ويكاد لا يخلو بيت في مصر من فرد أو جار أو صديق سبق له العمل في السعودية. حسين (32 سنة) قدم لتوه من السعودية حيث يعمل محاسباً، ليمضي بعض الوقت مع زوجته التي اقترن بها قبل عام ولم يمكث معها سوى أسبوعين. يقول: «أود لو أعود إلى مصر، وحاولت أثناء إجازتي البحث عن فرصة عمل مناسبة، لكن الوضع صعب». يقيم حسين في السعودية مع ابن عمه وزوج أخته وأبناء خالته، وجميعهم في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من العمر. حكايات حصولهم على فرص العمل متطابقة، حيث التواصل مع مكاتب التشغيل أو السماسرة. يشير المسح إلى أن الحصول على معلومات عن فرص العمل هي أول بنود الكلفة الاقتصادية للهجرة. مؤسس ورئيس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة الأستاذ في الجامعة الأميركية في القاهرة الدكتور أيمن الزهري يلفت إلى أن حوالى نصف المهاجرين يحصلون على دعم مالي أو مادي من الأقارب والأصدقاء سواء في صورة سلفة أو هبة لتمويل عملية الهجرة. والحكايات كثيرة. فهناك من باع مصوغات والدته الذهبية، أو نصف فدان يمتلكه والده، أو بيتاً تسكن فيه الأسرة، على أمل بأن تؤتي الهجرة ثمارها سريعاً وتعوّض الأسرة عن بيع أصولها الثابتة والوحيدة. لكن رياح الهجرة تأتي غالباً بما لا يشتهيه المهاجر أو أسرته. فأكثر من 86 في المئة من المهاجرين العائدين يستخدمون «شقاء السنين» أي التحويلات في تغطية حاجات الأسرة اليومية من طعام وملابس، ونحو نصفهم اشترى سلعاً للأسرة. مدحت (44 سنة) الذي يعمل في الكويت منذ أكثر من عقدين وإن كان في شكل متقطع، يعتبر أنه أفنى سنوات عمره في الغربة، لذا فإن زوجته وأبناءه الأربعة لا يعرفونه تمام المعرفة. يقول: «أبنائي كبروا من دون أن أتابع طفولتهم. لا أعرف طباعهم، ولا يعرفون عني الكثير. صحيح إنهم يحبونني وهم حياتي كلها، لكن ما كسبته من الغربة هو شقة صغيرة (غرفتان وصالة)، وسداد نفقات الدراسة ومصاريف الحياة اليومية فقط لا غير، وهو ما لا يفرق كثيراً عن حياتي قبل الغربة. نتائج المسح تشير إلى أن حوالى ربع المهاجرين المصريين يؤكّدون أنه لا يوجد تغيير بين حالتهم المعيشية في آخر بلد هاجروا إليه وحالتهم المعيشية الحالية. والأسوأ من ذلك أن 35 في المئة منهم قالوا إن حالتهم باتت أسوأ قليلاً بعد العودة. و9 في المئة فقط يرون أن حياتهم أضحت أفضل كثيراً. وبلغة الأرقام، فإن غالبية الأسر التي تتلقى تحويلات مالية من ذويها المهاجرين تنفقها على مصاريفها اليومية، ثم في تسديد أقساط المدارس، ونفقات العلاج. ثم تأتي استخدامات بسيطة مثل سداد الديون وبناء المساكن وأخيراً، التوفير والاستثمار، المفترض أن يكونا في صدارة اللائحة. قبل موعد إجازته السنوية، يتلقى مدحت من أبنائه لوائح تتضمن طلباتهم من ملابس وهواتف محمولة وغيرها. وعموماً تظهر نتائج المسح أن الملابس والأحذية هي أكثر السلع التي يحملها أو يرسلها المهاجرون إلى أسرهم، تليها الأغطية والبطانيات، ثم الهواتف المحمولة. ويلخّص مدحت سنوات عمره بقوله: «أنفقت تحويشة العمر لأعمل في الخارج، وأنفق شقاء العمر لنشتري ملابس وأحذية وهواتف محمولة». فئة أخرى من المهاجرين المصريين هي تلك التي تصوب عينها في الاتجاه المعاكس، وتحديداً بلدان أوروبا وأميركا الشمالية. ووفق المسح هي الأقل عدداً، حيث إن 3 في المئة فقط من مجموع المهاجرين المصريين في أوروبا، وواحد في المئة في أميركا الشمالية. علماً أن الأسر التي هاجرت بكامل أفرادها، وهي من سمات الهجرة إلى بلدان بذاتها مثل أميركا الشمالية وأستراليا، لم يتمكن القائمون على المسح من الوصول إليها، ما يعني أن نتائجه لم تشملهم. كما أن عدداً كبيراً وإن كان غير معروف من المصريين المسيحيين سافر إلى أميركا الشمالية خلال حكم الإخوان المسلمين خوفاً من الاضطهاد، لكن كثراً أيضاً عادوا بعد «انقلاب الإرادة الشعبية».