المعاهدات والاتفاقيات الدولية ملزمة لأطرافها، لأنها تمثل إرادة الدول ولا تتغير تلك المعاهدات أو الاتفاقيات بتغير القيادات وإلا لما استقر السلم والعدل الدوليان، فلا توجد دولة في العالم لم تعقد معاهدة أو اتفاقية، كما انه معروف ان المعاهدات تلعب دوراً هاماً في المجتمع الدولي، فهناك معاهدات الصلح ومعاهدات تحديد الحدود والمعاهدات والاتفاقيات التي تنظم استغلال مياه الأنهار الدولية وغيرها، وقد اكتسبت المعاهدات والاتفاقيات أهمية متزايدة في النظام القانوني والدولي وأكدتها الممارسات العملية للدول، هذا لأن الاتفاقية او المعاهدة تمثل الإعلان الصحيح عن إرادة الدولة او الدول المتعاهدة والموقعة على المعاهدة او الاتفاقية. ومن الأنهار الدولية نهر النيل، الرين، الدانوب، الكونغو وغيرها، ووضع تلك الأنهار الدولية القانوني من حيث الملكية أن الجزء من النهر الذي يجري في أقاليم دول عديدة يصبح ملكاً للدولة التي تجري مياهه فيها، ومقالنا يتناول باختصار شديد نهر النيل الذي يبلغ طوله 6700 كيلومتر حيث يبدأ رحلته الطويلة من (كيجيرا) حتى يبلغ مصبه في البحر الأبيض المتوسط ليمثل مصدراً أساسياً للحياة خصوصاً لمصر التي ينتهي عندها ولأثره الكبير عليها واعتمادها الكامل عليه سميت «هبة النيل» كما يقال حديثاً عن دول الخليج العربي انها «هبة النفط». ولما كانت بريطانيا دولة مستعمرة وكانت مصر والسودان من مستعمراتها فإنها (بريطانيا) في عام 1925 توصلت مع ايطاليا إلى توقيع مذكرات اعترفت بموجبها ايطاليا بحقوق مصر والسودان على النيلين الأزرق والأبيض، بل وعلى روافدهما، وتلى ذلك اتفاق بريطاني - مصري في 7 أيار (مايو) 1929، من ذلك العام حيث اعترفت حكومة بريطانيا آنذاك بحق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل وقرر ذلك الاتفاق الشهير بأنه لا يمكن المساس بمصالح مصر الا بالاتفاق المسبق مع الحكومة المصرية خصوصاً في ما يتعلق بخفض كميات المياه التي تصل إليها او تعديل منسوبها او تاريخ وصولها. وفي 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1959 توصلت مصر والسودان إلى توقيع اتفاقية هامة نصت على تنظيم واضح لانتفاع الدولتين بمياه النهر الذي يعد شريان الحياة الاقتصادية والتنموية والزراعية لهما، حيث نصت الاتفاقية على حصول مصر على 55.5 بليون متر مكعب، والسودان على 18.5 بليون متر مكعب من المياه. واذا كانت دول المنبع (كينيا، أوغندا، بوروندي، راوندا، تنزانيا، الكونغو، إثيوبيا) تنادي بإعادة تقسيم مياه النيل بين دول الحوض التسع، وقالت انها تعتزم توقيع اتفاق اطاري في منتصف هذا الشهر، فقد رفضت ذلك مصر والسودان، المستفيدتان الأكبر من مياه النهر، باعتبارهما دول المصب وتتمسكان بكل الاتفاقيات والمذكرات السابقة الموقعة التي تنظم الانتفاع بمياه النهر التي نصت صراحة على حقوق مصر والسودان في مياهه. ومعروف ان مصر مثلاً تعتمد بنسبة حوالى 95 في المئة على مياه النيل، والاتفاقيات التي وقعتها ومعها السودان والمشار إليها آنفاً تضمن حقوق البلدين في مياه النهر طبقاً لنصوصها وتطبيقاً للقانون الدولي، وهذا ما أقره في عام 1961 معهد القانون الدولي الذي أكد إلزامية الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالأنهار والتي تجري عبر دول متعددة كنهر النيل والدانوب وغيرهما. ومن واقع اهتمام مصر بالتعاون بين دول المنبع والمصب لحماية مصالح الكل تقدمت بمبادرة عام 1999 لخلق تعاون بين الدول التسع للمحافظة على المياه التي تسقط على دول الحوض ولا يستفاد منها وتنتهي في المحيط الأطلسي، ولأن دول المنبع السبع لا تعتمد على مياه نهر النيل الا قليلاً ولا تكاد تستفيد منها، فيبدو ان مطالبتها هذه وراءها ما وراءها، فإثيوبيا والتي لا يتعدى اعتمادها على مياه النهر ما نسبته 1 في المئة هي صاحبة مبادرة تقاسم مياه النيل، الشيء الذي يجعلنا نقول ان (وراء الأكمة ما وراءها) فالأمر لا يخلو من تدخل أياد أجنبية وفي مقدمها الدولة العبرية التي لها تدخلها المعروف سراً وعلناً في بعض دول القارة السمراء ومنها اثيوبيا. واذا كانت أديس أبابا ومعها دول أخرى من دول المنبع ترتكز في حجتها على ان الاتفاقات السابقة وقعت في عهد الاستعمار فإن هذه الحجة القانونية تدحضها محكمة العدل الدولية ومقرها لاهاي حيث أقرت بأن اتفاق عام 1929 شبيه بالحدود الموروثة عن الاستعمار ولا يجوز المساس بما ورد به من نصوص قانونية، كما ان هناك نصاً قانونياً مطابقاً لما اتجهت إليه محكمة العدل الدولية، فاتفاقية فيينا لعام 1978 نصت على ان اتفاقيات الأنهار الدولية لا يجوز المساس بنصوصها تعديلاً بالحذف او الإضافة الا بموافقة كل الأطراف فهي كاتفاقيات الحدود الموروثة عن الاستعمار بشره وخيره ان كان فيه خير. وبناءً على ذلك فقد كانت هناك اتفاقات بين مصر وأوغندا وإثيوبيا في عامي 1991 و1992، نصت على ان هذه الدول الثلاث اتفقت على عدم الإضرار بمصالح أي طرف من الأطراف، والمفهوم القانوني لهذه الاتفاقيات هو الالتزام بالاتفاقات السابقة الموروثة نصاً وروحاً - أي الالتزام الحرفي بما قررته تلك الاتفاقيات. وعلى رغم وضوح نصوص الاتفاقيات التي ورد ذكرها الا انه لا يمكن انكار أن هناك خلافاً بين الدول صاحبة المنبع ودولتي المصب مصر والسودان، والطريق الأسلم لحل مثل هذه الخلافات او النزاعات هو سلوك طريق الحل الودي فهو سيد الحلول، وأمام مصر والسودان فرص ذهبية في هذا المجال فكل الدول التسع التي تختلف وجهات نظرها حول مياه هذا النهر العظيم هي أعضاء في الاتحاد الأفريقي ويمكنها من خلاله عرض المشكلة لإيجاد صيغة اتفاق ترضي كل الأطراف. كما ان لدى مصر - وهي الدولة التي تجاوز عدد سكانها الثمانين مليون نسمة وأصبحت بحاجة اكبر لزيادة ما تحتاج إليه من مياه النيل - مشاريع في بعض بلدان المنبع لدعم زيادة الاستفادة من المياه التي تذهب هدراً ومن خلال هذه المشاريع يمكن مصر ان تفتح قنوات للتفاوض لزيادة حجم هذه المساعدات بإشراك منظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي وغيره للمساهمة في دفع عجلة هذه المشاريع وزيادة عددها بالتمويل المالي. وعلى الجانب الآخر، فإن الديبلوماسية على مر العصور تلعب أدواراً رئيسة في حل النزاعات الدولية. وإذا أقفلت كل الأبواب في وجه المساعي كلها، وهذا قد يكون أمراً مستبعداً، فإن الاتفاقيات والمذكرات التي عقدت في شأن تنظيم مياه النهر هي الفيصل وليس لدولة من الدول التنصل من أي نص من نصوصها، وهنا تبقى محكمة العدل الدولية خياراً أخيراً، تعرض أمامها حقوق مصر والسودان الطبيعية والقانونية والتاريخية في مياه النيل الذي تكفله كل الاتفاقيات والمذكرات السابقة الموروثة. ولا شك في ان بين مصر والسودان علاقات تاريخية وثيقة وتعاونهما للانتفاع بمياه النهر يحظى بأهمية قصوى ووضعت الاحكام العامة للاتفاقية التي عقدت بينهما في عام 1959 إطاراً لتعاونهما في بحث أي شأن من شؤون مياه النيل مع أي بلد من البلاد الواقعة عليه، اذ نصت الاتفاقية المشار إليها على ان (تتفق الدولتان على رأي موحد بعد الدراسة بواسطة الهيئة الفنية التي نصت عليها الاتفاقية في شأن مطالبة الدول الأخرى بنصيب في مياه النيل). إن فقهاء القانون في السودان ومصر لهم باعهم الطويل في ميدان القانون الدولي والتحكيم الدولي وان كان مثل هذا النزال او النزاع اذا عرض على المحكمة الدولية سيطول أمره الا ان الحقوق تحتاج إلى رجال يدافعون عنها بعلم وفكر وحكمة وصبر وبعد نظر، ولدى رجال القانون في مصر تجربة دولية رائدة في ميدان القانون الدولي عندما انتزعوا طابا من أيدي القانونيين الاسرائيليين وأثبتوا تفوقهم. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. [email protected]