صدر في إسطنبول كتاب «دار الفنون – حاضنة ثقافة الحداثة العثمانية». من إعداد أكمل الدين إحسان أوغلو أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي، وتقديم خالد أرن مدير عام أرسيكا. ونشر مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول (أرسيكا). يقعُ كتاب «دار الفنون» (جامعة إسطنبول)؛ في مجلدين فاخرين يتكونان من 1126 صفحة، وهذا الكتاب ليس وليد الصُّدفة أو الْمُصادفة، وإنما هو حصيلة اهتمام لازَمَ المؤلفَ مُنذ سنوات عدة، فقد سَبَقَ له أن كَتَبَ في موضوع «دار الفنون» عام 1990م/ 1411 ه، وعام 1994م/ 1415ه، وما بعدهما، وأشرف على نشرِ كتابِ «الدولة العثمانية تاريخ وحضارة» الذي صدر باللغة التركية ابتداءً، ثم عرّبه صالح سعداوي، ونُشِرَ بالعربية في مُجلّدين عام 1999م/ 1420ه، وكتبنا عنه في جريدة «الحياة» حينذاك، وتضمّن ذلك الكتابُ إضاءات مفيدة حول الحضارة الإنسانية العثمانية وتطوّرها، وما قدّمه قطاعُ التربية والتعليم من روافد عِلمية وأدبية، وتمّ بحثُ ذلك في الباب الرابع: (ج/2، ص 439-692)، من ذلك الكتاب. وأخيراً وليس آخراً جَمَعَ أكمل الدين إحسان أوغلو جهودَ عشرات السنين في كتابه الذي صدر حديثاً معلومات مفيدةً تُنيرُ تلك الزوايا التي كادَ يغطّي عليها التعِتِيمُ المقصودُ وغيرُ المقصود. أشاد خالد أرن بالكتاب في التقديم الذي كَتَبَهُ، وأثنى على مُؤلفه، وأكّد أنّ هذا الكتاب هو حصيلة بحثٍ متواصلِ عبْر العديد من السنوات، رَصَدَ فيه مؤلِّفُهُ حركة تطوُّرِ التعليم العالي في السّلطنة العثمانية، ولا سيما بعد افتتاح دار الفنون للتعليم العالي عام 1846م/ 1262ه، وما تبع ذلك من نجاحات وإخفاقات إلى أنْ استقرت أوضاعُ «دار الفنون»، واستمرّت بتقديم العلوم والمعارف بانتظام من دُوْن انقطاعٍ اعتباراً من عام 1900م/ 1318ه، وعلى أفضل المستويات الأكاديمية، وجاءت أهمية هذا الكتاب من هنا باعتباره يرصدُ هذا الموضوع بدقّة اعتماداً على وثائق مُوثّقة، ويعطي صورةً واضحة عن تطوّر التعليم في كلية الآداب وكلية الحقوق، وكلية الإلهيات، وكلية الطب، وكلية العلوم الرياضية، وما امتازت به تلك الكليات من برامج راقية كانت لها آثارٌ إيجابية في تطوّر الثقافة العثمانية. بدأ أكملُ الدين إحسان أوغلو الكتابَ بتوجيه الشكر لأصدقائه الذين تعاونوا معه، ووفروا له خدمات جليلة في جامعة إسطنبول ومكتباتها التي تزخر بالوثائق والصور والمعلومات التي شكّلت سدوةَ الكتاب ولُحمتَه، ثم عَرَضَ حركةَ سيرِ تأليف الكتاب من البداية إلى النهاية عارضاً مراحلَ إعداده، ومصادرَ معلوماته المخطوطة والمطبوعة والمصوَّرة، وقد أحال في هوامشه إلى ما كَتَبَهُ هُوَ من مقالات سابقة بطريقة توحي بإعجابه بما كتب في هذا المجال. ثم أعقبَ ذلك بمدخل تناول فيه تطوّر أوضاع التعليم العالي في الجامعات الأوروبية التي تُعتَبَرُ استمراراً لمؤسسات التعليم الإغريقية اليونانية والرومانية وما جاء بعدها حتى الألفية الثانية داخل أوروبا، ثم في أميركا، ثم في آسيا وأفريقيا وغيرها، وآثارَ تلك الجامعات في صِناعة الحضارة. ولكنّ المؤلفَ كرَّرَ خطأً شائعاً حينما ذكر أنّ كريستوف كولومبوس نَقَلَ معه فكرة تأسيس الجامعة بعدما اكتشف العالم الجديد، أي: القارة الأميركية: (ج/1؛ ص 69)، عام 1492م/ 897ه. والحقيقة أن كولومبوس أراق دماءَ أبناء العالم القديم في القارة الأميركية باستباحته دماء الهنود الحمر وغيرهم، فهل استعمالُ مُصطلح «الاكتشاف» محلّ مُصطلح «سَفْكِ الدماء» يؤدي الغرضَ المقصودَ من استعمال المصطلح، أمْ أنّه يُوهِمُ القارئَ ويشوّشُ تفكيرَه؟ وهل كولومبوس وَسَادَتُهُ فرديناندو وإيزابيلا هُمْ أصحابُ جامعات؟ وهم الذين دمّروا أرقى الجامعات التي كانت مصدر التنوير العالمي في الأندلس، وحرقوا المخطوطات في ميدان غرناطة في عام 1492م/ 898 ه الْمُشار إليه بعام اكتشاف العالم الجديد ونقل فكرة تأسيس الجامعات إليه!!!. وتابع المؤلف سَرْدَ معلومات حوْلَ المنجزات الجامعية برعاية الملك الإسباني والكنيسة الكاثوليكية في «العالم الجديد» فذَكَرَ أنهم افتتحوا جامعة «سانت دومينكو» عام 1538م/ 945ه، وجامعة المكسيك وليما عام 1551م/ 958ه، وتتابع نشْرُ الجامعات، ثم طوَّر الإنكليزُ الجامعات أكاديمياً وكذلك الألمان والفرنسيون في القرن التاسع عشر، ووصل التأثير الأكاديمي الأوروبي إلى آسيا وأفريقيا مع الاستعمار، والنموذج البارز لذلك ما نَشَرَهُ الإنكليزُ في الهند من جامعات بمدينة كلكُتّا عام 1857م/ 1274ه، ثم في مدينة بومبي ومدْرَاس عام 1882م/ 1299ه، ثم مُدُن البُنجاب (الباكستان)، وكذلك تم افتتاح المعاهد على نمط معاهد أوكسفورد وكامبريدج، وكانت تلك الجامعات والمعاهد على النمط الإنكليزي، ومن أجْل خدمة السياسة الإنكليزية، وقد امتدَّ تأثيرُ تحديثِ الجامعات الأوروبي الفِرنسي ثم الألماني إلى اليابان عام 1868م/ 1285ه، ثم تسارع ما بين عام 1868م/ 1285ه، وعام 1912م/ 1330ه، وتأسست أوّل جامعة حكومية يابانية في طوكيو بقرار إمبراطوري عام 1885م/ 1302ه، وتبعتها جامعات حكومية أخرى ثم جامعات خاصّة. وبعدما مهَّد المؤلِّفُ باستعراض مسيرة تطوّر الجامعات العالمية، انتقل إلى الحديث عن الجامعات في السلطنة العثمانية، والعالم الإسلامي، فأوضح أنّ الإداريين في إسطنبول قرّروا إنشاءَ «دار الفنون» (جامعة إسطنبول) لتكون نموذجاً عثمانياً عصرياً حداثياً يُحتذي به في بقية مُدُنِ ودُوَلِ العالم الإسلامي، وذلك في زمنٍ اجتاحتْ خلالَهُ المؤسساتُ التعليمية الاستعمارية معظمَ أنحاء العالم، فقد أُنشئ في إسطنبول معهد «روبرت كولج» الأميركي عام 1863م/ 1280ه، وأصبح معهداً عالياً عام 1958م/ 1378ه، ثم أصبح جامعة هي جامعة «بوغازإيجه» عام 1971م/ 1391ه، وافتتح الأميركيون الكلية البروتستانتية السورية في بيروت عام 1866م/ 1283ه، وبعد الاحتلال الفرنسي لِلُبنان ارتبطت الكلية السورية بجامعة نيويورك عام 1920م/ 1338ه، ثم سُميت الجامعة الأميركية «AUB» عام 1952م/ 1372ه، وأُنشِئتْ في بيروتَ مؤسسات تعليمية أخرى مُماثلة كجامعة القديس يوسف وغيرها. وبِمُواجهة انتشارِ المؤسسات الأجنبية «التبشيرية» أمَرَ السلطانُ عبد الحميد الثاني بإنشاء المكتب الطبي في دمشق عام 1903م/ 1321ه، وأصبح كلية الآداب عام 1929م/ 1348ه، تحت الاحتلال الفرنسي، ثم أصبح في ما بعد «جامعة دمشق»، وأُنشئ مكتب الحقوق العثماني في بيروت عام 1912م/ 1330ه. وأنشئت الجامعة المصرية عام 1908م/ 1326ه، ثم الجامعة العراقية عام 1951م/ 1371ه، ثم تتابع انتشار الجامعات فأنشئت الجامعة الليبية عام 1955م/ 1375ه، ثم بدأت الجامعات السعودية عام 1957م/ 1377ه، ثم التونسية والكويتية عام 1960م/ 1380ه، والإندونيسية عام 1950م/ 1370ه، والماليزية عام 1957م/ 1377ه إلخ. بعدما قدّمه الكاتبُ من تمهيدٍ شكّل خلفيةَ الكتابِ، انتقل إلى ما سَمّاه الكتاب الأول: (1/75-345) وبَحَثَ فيه تاريخَ «دار الفنون» وما آلَتْ إليه مُنذ نشأتِها عام 1846م/ 1262ه حتى عام 1933م/ 1352ه. وقد زخر هذا الكتاب بمعلومات تفصيلية حَوْلَ مفهوم العِلم والتعليم في الدولة العثمانية قَبْلَ عهْدِ التنظيمات وبعدَه، وتطوُّر السياسة التربوية في ظلِّ تشكيل المجلس الموقت عام 1845م/ 1261ه، ثُمّ تشكيل مجلس المعارف العُمومية عام 1846م/ 1262ه، وأثرُ ذلك التطوُّر في إصدار اللائحة التنظيمية للمعارف العمومية عام 1869م/ 1286 ه، وآثارُ ذلك على تطوّر المؤسسات التعليمية بكل مراحِلِها من الإبتدائية حتى التعليم العالي، وعلاقة ذلك بتأسيس «دار الفنون» عام 1846م/ 1262ه، وما تبعَ تأسيسَها من تطوُّرات لاحِقة حوْلَ مقرّها وبرامِجِها في شكلٍ مُفصّل لازَمَ تطوراتها مُنذ طرْحِ فكرة التأسيس، ثم تسمِيتها: «دار الفنون العثمانية» عام 1869م/ 1286ه، ثم «دار الفنون السلطانية» عام 1874م/ 1291ه، ثم «دار الفنون الشاهنشاهية» عام 1900م/ 1318ه، وارتبطت بها كلية الطبّ التي أُسّسَها العثمانيون في دمشق عام 1903م/ 1321ه، ثم صار اسمها: «دار الفنون إسطنبول» عام 1909م/ 1327ه، وكان مقرُّها قصر زينب خانم الذي احترق وأقيم مكانه بناءُ جامعة إسطنبول الحالي، ثم تمّ إحداثُ «دار الفنون للإناث» عام 1914م/ 1332ه، وبعد خروج القوات المحتلة الإنكليزية من إسطنبول عقِبَ الحرب العالمية الأولى مُنحت جامعةُ إسطنبول مبنى نظارة الحربية الذي كان يُسمّى «دائرة أمور عسكرية»، وما زالت إدارة الجامعة في هذا المقرّ حتى الآن. ثم جاء الكتاب الثاني (1/347-455) وفيه بحثٌ حوْل تأثير «دار الفنون» في مفهوم الحياة الثقافية وتحديثها ابتداءً بالعاصمة إسطنبول، وامتداداً إلى عموم المدن الإسلامية، وشمل هذا البحث بُنية «دار الفنون» وبرامجها التعليمية، وأساتذتها، وعلاقاتها مع الجامعات الأخرى، وتبادُل الخبرات الأكاديمية. وجاء الكتاب الثالث: (2/467-845) وعنوانه: «إنشاء الكليات والمعاهد والمكتبات»، وفيه بحث تاريخي مع رصدٍ لسير حركة تطور التربية والتعليم، وتواريخ إنشاء الكليات، وأنواعها لتعُمّ معظم أبواب المعرفة الإنسانية الأدبية والعلمية، وما يقتضيه ذلك من إنشاء كليات تخصصية، وأسهب المؤلف بدراسة كل كلية من تلك الكليات على حِدة، كما تعرّض لمكتبة «دار الفنون» المركزية ونظامها، ودعم آراءه ومعلوماته بالوثائق والصور الملونة وغير الملونة. واتبع الكُتُبَ الثلاثة بِمُلحقٍ (2/847- 1075) أشار فيه إلى القوانين والتنظيمات التي تخصُّ العِلم والتعليم والمعارف (2/849) ثم الخطابات والمخاطبات التي لها علاقة بالتعليم (2/955)، ومنها «خط هُمَايُوْني» الذي أصدره السلطان عبد المجيد عام 1845م/ 1261ه، والخطابات التي ألقيت في احتفالات «دار الفنون» عام 1870م/ 1287ه، وصورة العريضة التي قدّمها جمال الدين الأفغاني «الفارسي» إلى السلطان عبد الحميد الثاني، والخطاب الذي ألقاه الأفغاني في «دار الفنون» باللغة العربية، ومما جاء فيه: «والآن الحمدُ لله بميامِن أمير المؤمنين، وظلِّ رَبِّ العالمين، أيّدَ اللهُ به الدولةَ والدين، وبِهِمَمِ وُكلائِهِ ووزرائه الراشدين الكاملين، قد أصبحت الملّةُ الإسلامية في هذه الممالك المحروسة العزيزية مُستنيرةَ الأطرافِ، مُشرِقةَ الأكنافِ، يكادُ سنا برقها يخطف الأبصار، وطلعتْ شمسُ شرفِ السلطنة المحمدية من مَغربِها، وانتشرت أنوارُها على كل الأقطار... أقولُ ذلك، وأحمد الله على ما أنعم عليّ بنعمةِ الهجرة والالتجاء إلى هذه الدولة المؤيّدة العادلة، جعلني وإياكم من العارفين بقدر نِعَمِها وإحسانها، وأدام عليّ وعليكم رِضاها ومراحمها بدوام وتخليد سرير ملْكِ صاحبِها إلى آخر الزمان». وخطاب ناظر المعارف زهدي باشا في احتفالات «دار الفنون» يوم السبت في أوّل أيلول/ (سبتمبر) عام 1900م/ 1318ه. وألحقَ بذلك بعضَ الوثائق ذات العلاقة بدار الفنون: (2/971)، ثم قدّم جدولاً زمنياً بالأحداث التاريخية المتعلِّقةِ بها (2/1077)، ثم ثبت المصادر والمراجع: (2/1085)، وختم الكتاب بالكشاف العام: (2/1109). لقد غطّى هذا الكتابُ تاريخَ مرحلةٍ مهمّةٍ من مراحل تطوُّر المؤسسات التعليمية في دولةِ الخلافة الإسلامية العثمانية، وما كان تحت إدارتها من بُلدان عربية وأعجمية، كما سلّطَ الأضواءَ على عوامل التأثُّرِ والتأثير التي شَمَلت مؤسسات التربية والتعليم بكل مراحلِها، وقدّم نموذجاً بدراسة مستفيضة ل «دار الفنون» التي ورثتها جامعةُ إسطنبول، وتَمَّ إخراجُ الكتاب بِحُلّةٍ قشيبةٍ من حيث الطباعة والتجليد، ونظراً الى ما يَكْتَنِفُ هذا الموضوع من تعتيمٍ عالمي، فإنّ ترجَمَتَهُ إلى اللغة العربية ضروريةٌ جداً من باب المساهمة في مدِّ جسُور المعرفة بين العرب والأتراك، وقد سَبَقَ لمؤسسة ارسيكا الْمُمَوّلَة من مُنظمة المؤتمر الإسلامي أنْ نَشَرَتْ بعضَ كُتُبها بالعربية والتركية والإنكليزية أيضاً، وسيكونُ لتعريب هذا الكتاب أثره المفيد عربياً وتركياً. * باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن