يقول أحمد أمين في كتابه «حياتي» ص281: «وحاولت أثناء عمادتي أي لكلية الآداب أن أحقق ثلاث مسائل، لم أنجح فيها كثيراً... والثالثة: «محاربة الطريقة التي يتبعها كثير من الأساتذة من قلبهم المحاضرات إلى دروس إملاء، فهم يملون على الطلبة ما حضّروا، أو يوزعون عليهم مذكرات مختصرة، وكنت أرى في هذا إماتة للروح العلمية الجامعية، وإنما المنهج الصحيح إرشاد الطلبة إلى مراجع الدرس، ثم إلقاء الأستاذ المحاضرة وتقييد الطلبة بأنفسهم لأنفسهم النقط الهامة مما فهموا، واعتمادهم على أنفسهم في ذلك» أ.ه قد لا نتفق معه تماماً في ما اقترحه؛ لكني أرى ما استدركه صواباً في كل حرف... قديماً كان لفحول الأدباء والعلماء مجالس علمية يسمونها الأمالي، حيث يملي العالم على تلاميذه مروياته ومحفوظاته من الآداب والعلوم والأخبار، ولم تكن هذه الأمالي طريقاً يتخذها أولئك للتعليم، بل هي رواية محضة، وأحياناً يضيف عليها المملي مما فتح الله عليه به من أدب أو فقه أو لغة...إلخ. ومن أشهر هذه الأمالي: أمالي أبي علي القالي، وأمالي ابن الشجري، وغيرها كثير؛ غير أنها لا تصلح أصلاً تقاس عليه أمالي الأساتذة في المحاضرات الجامعية، فهو قياس مع الفارق المؤثر، فما يمليه أحدهم لا يعدو أن يكون منقولاً من مراجع مشهورة مطبوعة، فلم يكن من جهد الأستاذ المملي إلا النقل منها وهي في متناول اليد! وكان يسعه أن يحيل عليها، أو يجمع تفاريقها، أو يأمر بجمعها وتصويرها من أجل أن يتوافر جهده وجهد طلابه على فهمها، ونقدها. الفرق بين أمالي الأمس وأمالي اليوم في قاعات المحاضرات: أن أمالي الأمس كانت روايةً للمحفوظ مما ليس مجموعاً في كتاب يسهل الرجوع إليه، ولا يخلو بعضها من إضافة علمية رائعة من المملي، ولا سيما في علوم اللغة والنقد، أما أمالي اليوم فهي نقلٌ للمطبوع، وقد يضاف إليه شيء مما تجود به قريحة الأستاذ المملي، ولا شيء سوى ذلك، فلا مناقشة ولا إضافة، وهو في نظري قصور في التعليم والتأهيل أيضاً. وماذا عساه أن يضيف جديداً إذا كان الأستاذ يكتب مذكرته بيمينه، يكثر فيها من النقل والجمع وحشد النصوص، ثم يكون قصارى فعله أن يمليها على الطلاب. وكان أهون عليه وعلى طلابه أن تُصوَّر، ثم يقرأها طلابه كما يُقرأ أي مؤلف، فينحصر جهده في المحاضرة في المراجعة والنقد والاستدراك والتتبع...الخ من حق أي أستاذ أن يختط له مؤلفاً في ما يدرس بشرط أن يكون على المنهجية العلمية الصحيحة، وأن يضيف جديداً من حسن تحقيق وترجيح ونقد صحيح...الخ لكن أرى أن من قتل جو الابداع والتفكير في المحاضرة أن يفتح الاستاذ كراسته؛ ليملي ما فيها على الطلاب، وينتهي عمله عند هذا فإذا أراد احدهم المراجعة والنقد قفل عليه الباب... حينئذ سيستوي عند الامتحان المنتظم والمنتسب الذي لم يحضر شيئاً من المحاضرات، وكان المنتظم في غنى عن حضور الدرس ما دام على هذه الطريقة البليدة. حين انتقد هذه الطريقة فليس من لازم قولي أني امتدح طريقة العرض الحاسوبي من خلال البوربوينت أو غيره؛ لأن هذه الطريقة الحديثة لا تصلح إلا في اعادة ترتيب الفكرة وعرضها بشكل أبسط بعد نهاية الدرس أو عند بدايته لا ان يختصر فيها الدرس... هذه الطريقة هي الأخرى إن لم يمازجها حوار ونقاش حول الفكرة واستدراك ومراجعة فلا إضافة فيها عند التحقيق. أرى أن يتحول جهد الطالب في القاعة من الكتابة الى حسن الاستماع لما يشرحه الأستاذ، ثم فتح باب المناقشات والحوار. وعلى كلٍ فإن كان ولا بد الإملاء فليكن حاشيةً، وليس متناً، وفرعاً وليس أصلاً، مما فيه مزيد إضافة من الأستاذ نفسه مما توصل إليه فكره، أو لاح عند تأملاته. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]