«توجهت إلى الحاجز في الثامنة وكان مزدحماً لكن أحد أفراد الشرطة صرخ في وجهي فأخافني وهربت». هذا ما نقل عن طفل في العاشرة أوقفته قوات الأمن العراقية أواسط الأسبوع الماضي... قبل ان يفجر حزاماً ناسفاً وضع حول خصره واقترب به من أحد الحواجز العسكرية في عامرية الفلوجة غرب بغداد، ليصبح أصغر انتحاري تشهده الساحة العراقية، متفوقاً على طفلة في الثالثة عشرة سبق وفجرت نفسها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. الخوف والارتباك منعا طفلاً آخر يبلغ الرابعة عشرة، من إتمام عمليته الانتحارية أيضاً في منطقة المسبح وسط بغداد وذلك قبل نحو يومين فقط من حادثة العامرية. وكان الطفل فور توقيفه أجهش بالبكاء وأدلى باعتراف كامل. بقيت الأخبار عن الولدين شحيحة جداً فلم تتناول وسائل الإعلام قصتيهما المفصلة وخلفيتيهما الاجتماعية والاقتصادية كما جرت العادة مع انتحاريين أوقفوا قبل تنفيذ جريمتهم فلم يعرف لهما اسم، ولا رسم لهما «بروفايل» يسهل تعقب آخرين من خلاله. بقي الخبران المتعلقان بتوقيف الولدين اقرب إلى حادثتين منفصلتين عن سياق التفجيرات الدموية التي هزت مناطق متفرقة من بغداد الأسبوع الماضي وأودت بحياة أكثر من 170 شخصاً. ولعل ما عمق ذلك الغموض عدم تبني أي جهة «قاعدية» او «أهلية» للولدين في شكل خاص. لكن بياناً نشرته «القاعدة» يوم الجمعة الماضي نفت فيه ضلوعها في عمليات الأحياء السكنية وتبنّت في المقابل الأهداف العسكرية والديبلوماسية أثار الريبة حيال الولدين. فأحدهما كان متوجهاً إلى حي سكني والآخر إلى نقطة تفتيش عسكرية. وبمطلق الأحوال ذلك لا ينزع عن محاولتي التفجير «الطفوليتين» بصمات «قاعدية» سواء بإشراف مباشر أو عبر «فرانشايز» لمجموعات محلية صغيرة. القاسم المشترك «المعلن» بين الولدين بحسب الأجهزة الأمنية أنهما ينتميان إلى ما يسمى «طيور الجنة» وهو تنظيم متفرع من تنظيم «القاعدة» متخصص في تدريب وتجنيد الأطفال والمراهقين دون السادسة عشرة لتنفيذ عمليات قد تتراوح بين لعب دور ساعي البريد وتنفيذ هجمات انتحارية. وكانت أولى المعلومات عن «طيور الجنة» بدأت تخرج إلى العلن في 2008 بالتوازي مع الكشف عن جناح نسائي عرف ب «حريم القاعدة». إنهما إذاً، طائران صغيران لم يكد تحليقهما يذهب بهما بعيداً باتجاه هدفهما الموعود، حتى أعيدا إلى جحيم لم يحذرهما منه المجندون. سمة الطفولة لا تتجلى في صغر سنوات عمرهما بقدر ما تظهر واضحة في رد الفعل الأول تجاه مصدر السلطة، وهو في هذه الحالة رجل الأمن. بهذه البساطة، تجاوز الولدان خوفهما من الموت لكنهما لم يتجاوزا خوفهما من الشرطي. فارتبكا وتلعثما وكشف أمرهما. هذه ليست المرة الأولى التي تحبط فيها عملية انتحارية «ابطالها» أطفال للسبب عينه. فالطفل الباكستاني عبدالله البالغ من العمر 11 سنةً، والذي سبق واشتهر بأنه «أصغر انتحاري في العالم»، كلف في مطلع 2009 بتنفيذ عملية انتحارية، لكنه ارتبك هو أيضاً بسترته الكبيرة المحملة بالمتفجرات وأودع السجن منذ ذلك الحين. وكتب الصحافي الاميركي بيل نيلي انطباعاته بعد إجراء مقابلة مع عبدالله في سجنه، فقال «دخلت الزنزانة وكنت خائفاً لأني سأقابل مقاتلاً من طالبان. فوجدته طفلاً بريئاً يحاول إغلاق سحاب بنطاله بصعوبة بالغة. كان يشبه أي ولد بعمره وراح يتحدث بصوت رفيع متهدج عن مغامرته كمن يخبر رفاق صفه عما جرى له لكن مع فارق أنه يعرف تماماً كيف يفك كلاشنيكوف ويعيد تركيبه بسرعة فائقة». وهذا أيضاً ما حدث للمراهق الفلسطيني حسام عبدو الذي بالكاد بلغ 16 سنةً في 2004 عندما كلف بتفجير نفسه عند حاجز جيش إسرائيلي. تردده وارتباكه أثارا الشبهات فأوقف ونزع عنه حزام ناسف مزود ب 8 كلغ من المواد المتفجرة. تحدثت والدته إلى وسائل الإعلام وهي تكاد لا تصدق ما جرى لابنها. قالت «كنا نسمع أن تجنيد الأطفال يحدث، لكن لم نتوقع أن يحدث لنا... وحسام بالكاد يستطيع الاعتناء بنفسه». الخوف والارتباك إذاً، قاسم مشترك بين الاولاد الذين فشلوا في إتمام مهماتهم، في مقابل أعداد ضحايا ضئيلة للذين نجحوا في تحويل أجسادهم قنابل بشرية. فمقارنة حسابية بسيطة بين العمليات التي ينفذها «راشدون» وتلك التي ينفذها صغار، يظهر جلياً ان نسبة «نجاح» الاولى أعلى بكثير لجهة قتل عدد أكبر من الضحايا. وإذا ما استعرضنا العمليات التي نفذها مراهقون، نادراً ما يرتفع عدد القتلى عن 5، وغالباً ما يموت المنفذ وحده أو يقتل معه شخص آخر. لذا، من جند ودرب وأرسل الولدين العراقيين لتفجير نفسيهما لا شك في أنه يعلم بهامش الخطأ الكبير في هذه الحالات، ولكنه عملياً راهن على احتمالات النجاح مهما بدت ضئيلة. وهذا بحد ذاته يكشف الكثير عن وضع «القاعدة» في العراق اليوم. فصحيح ان «القاعدة» في العراق حديثة الانضمام نسبياً إلى تجنيد الأحداث بهدف تنفيذ عمليات انتحارية (مطلع 2008) ولم يشكل نشاطها في هذا المجال ظاهرة بالمعنى الكامل للكلمة بعد، إلا أن ذلك ليس منقطعاً عن سياق أوسع. فثمة خبرات سابقة للجماعات الإسلامية في تجنيد الأولاد كمجموعات في باكستانوأفغانستان وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. وامتدت تلك الخبرات نحو استدراج الأطفال كأفراد أيضاً في حالات تجنيد منفردة كالتوأم إيمان وسناء الغريسي (15 سنةً) اللتين كلفتا تفجير السفارة الأميركية في الرباط، أو حتى «الأرملة السوداء» الأخيرة التي نفذت تفجير نفق موسكو ولقبت ب «ذات الوجه الطفولي» ولم تكن تجاوزت السابعة عشرة بعد. وإذا ما تركنا جانباً ظاهرة «الاطفال الجنود» في أفريقيا وبعض بلدان أميركا اللاتينية لخصوصية كل منهما، فإن تجنيد اليافعين والأحداث في الاعمال العسكرية ليس جديداً بحد ذاته، وهو على أي حال يشبه التنظيمات الشبابية التي تخص بها الأحزاب أجيالها الصاعدة لترفد لاحقاً إما القيادة او الميدان. بهذا المعنى وبعيداً من التفجع ب «استغلال براءة الأطفال»، لا يبدو مستغرباً ان يسلك تنظيم «القاعدة» مسلك أي حزب شمولي مسلح يخوض حرباً ايديولوجية ضد عدو واضح. الفرق أن هذا «العدو» لم يرسم بعد ملامح محددة ل «القاعدة» واستراتيجية للتعامل معها غير رد الفعل الأمني والعسكري. أما ما يستدعي التوقف عنده فالعلاقة الوثيقة بين انخفاض الأعمار المضطرد وارتفاع خطورة العمل العسكري، أي بلوغ الأخير حالته القصوى في العمليات الانتحارية، مقابل تدني أعمار المنفذين أكثر فأكثر. في الحالة الباكستانية، لم يكن تجنيد الأطفال يتم سراً. فالمدارس الدينية التي انتشرت كالفطر في ارجاء واسعة من البلاد، كانت تهدف أول ما تهدف إلى ترسيخ قيم «الجهاد» في عقول الناشئة وتمجيد الاستشهاد على مسامعهم وتدريبهم على السلاح «دفاعاً عن النفس». ولطالما استخدم الأطفال في نقل المعلومات أو العتاد ولعبوا دور ساعي البريد في أكثر من حرب منها أفغانستان والعراق. لكن معدل أعمار الانتحاريين لم يهبط عن 17 سنةً. وأكثر من ذلك، فإن أعمار الأجيال الأولى من الانتحاريين ارتفعت عن 25 سنةً. لكن مع تضييق الخناق على حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» وصعوبة التجنيد خصوصاً بعد فتح جبهة العراق وتوجه عدد من «الجهاديين» اليها، ما عاد الاعتماد كبيراً على الأولاد الذين يرتادون تلك المدارس من تلقاء أنفسهم ولا حتى على من يخطف من ذويه أو من الشارع، بل صار الأمر تجارة منظمة مثل تجارة الأطفال. وكانت الشرطة الباكستانية كشفت أواسط 2009 عن معاهد سرية للأطفال تعدهم مباشرة ليكونوا انتحاريين متجاوزة المراحل الترغيبية الأولى من تقريب الجهاد والشهادة إليهم. وعندما أنقذت 20 ولداً من «مدرسة» في وادي سوات يديرها بيت الله محسود، كشف الأولاد عن وجود أكثر من ألف آخرين موزعين على عدد من هذه «المدارس». وأقر محسود عندما اعتقل لفترة قبل مقتله أنهم في الغالب أيتام، يتم شراؤهم وتهريبهم عبر المناطق الحدودية كما السلاح. وفي الوقت نفسه، كشفت قوات الأمن العراقية أيضاً عن عدد من «المياتم» ومحاجر المرضى العقليين التي يجند نزلاؤها لأغراض مشابهة، إضافة إلى عائلات مؤيدة للعمليات الانتحارية تستقبل أيتاماً لديها وترعاهم ريثما يحين وقتهم. تلك اجواء تشبه إلى حد بعيد أجواء مافيات الجريمة المنظمة التي لا توفر مخدرات أو سلاحاً، ولا نساء او اطفالاً، ويؤشر إلى طور جديد من أطوار «القاعدة». لذا عندما يبدأ التعامل معها كما مع مافيات نيويورك وصقلية، يصبح التغلب عليها أكثر قابلية. والواقع أن الصعوبة الفعلية في اللجوء إلى غير «الرجال» في العمليات الانتحارية بالنسبة للمجموعات الإسلامية ليست في الأطفال بقدر ما كانت في النساء. الأطفال لا سيما الذكور، معدون سلفاً لدور «بطولي»، وليس إرسالهم مبكراً إلى أرض المعركة إلا مسألة توقيت. وذلك الدور راسخ حتى في الثقافة الشعبية البعيدة من المعارك المباشرة في عدد من تلك المجتمعات. فكم قاصراً يرسل بدلاً من راشد لارتكاب جريمة شرف تحت مسمى «بطولي» هو غسل العار عن العائلة؟ فكيف إذا ما كان الشعار «تحرير الأرض وطرد المحتل» والمكسب هو الخلاص من حياة اليتم والبؤس؟ أما النساء، وما يحملنه من رمز للضعف وشرف الجماعة من جهة والخصوبة التي تنيط بهن دور «توليد المجاهدين» من جهة أخرى، شكلن عقبة فعلية أمام الجماعات الإسلامية لإرسالهن إلى الانتحار. لذا، ما ان حسم الخيار في تحويل تلك الأرحام من حاضنة «شهداء» إلى حاملة قنابل وموت، بات إرسال طفل إلى الانتحار خياراً أسهل لا بل مبرر. لكن ذلك لا يعني أبداً أنه خيار أول وبديهي بسبب هامش الخطأ الكبير إياه، وإنما هو ملجأ أخير يتم غالباً في المراحل الثانية من النزاعات المسلحة حين تنتفي البدائل. فلم نشهد تلك الظاهرة في حرب الخليج الأولى، ولا في الانتفاضة الأولى، ولا في حرب الشيشان الأولى، ولا حتى في حرب أفغانستان الأولى... وذلك على رغم وجود هذا «التكتيك الحربي» إذا صح التعبير منذ مطلع الثمانينات في جنوب لبنان. استخدام أطفال يؤشر عن إفلاس مزدوج ل «القاعدة» كأيديولوجيا وبروز دورها أكثر كمافيا للجريمة المنظمة. ففي الوقت الذي يبدو أن التنظيم ينتعش نسبياً في الغرب، لأسباب مختلفة وبأساليب حديثة، يبدو تقهقره واضحاً في البلدان التي اختبرته عملياً. فما عادت الصعوبة تكمن في تجنيد شبان راشدين فحسب وإنما في تمويل التدريب أيضاً. فالأولاد قد يسهل استدراجهم بالترغيب أو الترهيب، لا فرق، فهم لا يملكون ما يخسرونه أصلاً. لكنهم حتى بعد التجنيد لا يبدو أنهم اكتسبوا مهارات تكفل للتنظيم نجاح عملياتهم. فابن العاشرة ذاك، غادر حيه قبل يومين فقط من تكليفه بالمهمة الانتحارية. إنه ضربة حظ غير مكلفة... عصفور استطلاع إذا وصل كان به، وإذا أوقف يحرق جناحيه وليس من يأبه!