لو قُدّر للشاعرة الراحلة أمل جرّاح ألا تصغي، أو لا تقتنع بمن اسدى اليها النصيحة، بعدم نشر روايتها الفائزة بجائزة مجلة «الحسناء» عام 1968، لتسنّى لها أن تتوّج موهبتها الشعرية، بموهبة روائية. ولأفلحت، بالتمرّس المتواصل، وفي ضوء سنّة التطور والتدرّج، أن تشق طريقاً لها في عالم القصة العربية. فرواية مثل «الرواية الملعونة» الصادرة حديثاً عن «دار الساقي» تمتلك خامة روائية، سواء حصلت على الجائزة حينذاك أم لم تحصل. فهي بمقاييس الستينات تتمتع بكل مقوّمات الرواية الناضجة، كما رست عهد ذاك، إذ اختمر في ذهن الكاتبة مفهوم الرواية. فلم تدوّن خواطر او سوانح فتاة مراهقة، ولا تداعيات متحررة من أي قوالب أو أشكال. بل هي أنزلت موضوعها الجريء، في منزلة البؤرة الروائية، وأدرجته في اشكالها وسياقاتها السردية المألوفة. فما نقرأه قصة، بكل ما يعني هذا المصطلح الأدبي من دلالات، وموجبات فنية وجمالية أساسية وضرورية. أما موضوعها، إذا ما تموضعت هذه الرواية اليتيمة، في زمانها، أو فضائها المكاني والفكري في حقبة الستين من القرن الماضي، فإنها تعكس ثورة جيل الشباب الذي عايش حركات الاحتجاج الوجودي، وأصداء كتابات فرنسوا ساغان، وسيمون دي بوفوار، وألبير كامي، وجان بول سارتر، وسواهم من أدباء وفنانين، بشّروا بالفردانية والتحرر والعصيان. بيد أنّ أمل جرّاح، وإن عاشت هذه الحقبة، وهي في مطلع صباها، وتأثرت بما حولها، وبما تقرأه من نتاجات أدبية ذات مسحة وجودية، إلّا أنها اختارت لروايتها موضوعاً ذا إشكالية سيكولوجية منتزعة من حقل التحليل النفسي الفرويدي، لكنها تعبّر عن هذا النزوع التحرري الفردي عينه. ويمكن وصف الحالة التي تعرضها القصة، بأنها ظاهرة سريرية تقوم على عناصر وتكوينات عقدة «إلكتر» لدى الفتيات، مقابل عقدة «أوديب» التي تصيب الفتيان، بحيث تنجذب الفتاة إلى ابيها، وتثبّت عليه هواماتها، بعد تجاوزها مرحلة الطفولة. ومن دلالات هذه العقدة، غيرتها من أمها وكرهها لها، ومحاولة امتلاك الأب بدلاً منها. نذكر هنا روايات إحسان عبدالقدوس الذي تناول في قصصه بعضاً من هذه العقد النفسية. وأجمل ما في «الرواية الملعونة»، تلك البساطة في إبراز هذه العوارض النفسية الشاذّة، من دون أن تُقحم القاصّة نفسها أو قارءها باستخدام أي مصطلح من مصطلحات علم النفس وأدواته. بل هي تنصرف إلى التفاصيل الدقيقة لطقوس الرغبة المحرّمة، لكنها تظلّ دون العتبة الإروسية. بل مارست القاصّة رقابة أخلاقية صارمة، وأخضعت الرواية في ما بعد، إلى تشطيب طاول كل ما يمكن أن يخدش الحياء، على ما تقول زينب عساف، التي اطّلعت على المخطوطة، قبل نشرها، وعملت مع ياسين رفاعية على إعادة لغة الرواية إلى ما قبل التنقيح، بترك النص على اصله، والكاتبة على سجيتها. ومع ذلك بقي النص في الحدود الدنيا من الوصف الإباحي. ظلت الحالة المنحرفة حركة خفية جوّانية، مستبطنة في داخل النفس. وباتت الرغبة النابعة من الجسد، الجسد الذي «نريد أن نسكنه ونتصرف به بحرّية» وفق عبارة سيمون دي بوفوار. باتت رغبة مكبوحة، مُجهَضَة، تدور في دهاليز النفس الأمّارة بالسوء، ومعاناة يتجاذبها الصراع بين الحلال والحرام، والطبيعي والشاذ، والسوي والمرضي. بل إنّ ما أحاط بقطف الثمرة المحرمة مع الأب، بقي لحظة ضبابية، وصورة غامضة مشوّشة ومُلتبسة، لم تفصح القاصّة عن تفاصيلها الواضحة. تشكّل «عقدة ألكترا» لبّ القصة ومحورها، وتدل تصرفات البطلة الشابة الجامعية حنان إزاء والدها المحامي عزت، بعد رحيل أمها عن الدنيا، على كل العوارض الموصوفة في مثل هذه الحالة، حيث ترى في أبيها وسامة نجوم السينما، وينبوع الشباب الدائم. وتعجب بكل ما يفعل حتى بطريقة وضعه السيكارة بين أصابعه. وتعمل على أن تحلّ مكان الأم في قلب الأب. فتقرر أن تزيل من البيت كل رواسب الماضي وكل أطيافه التي تذكّر اباها بأمها. وأن تطمس ظلّها امام عينيه. فتعيد ترتيب البيت الذي غادرته الأم إلى غير رجعة «حتى أصبح المنزل جديداً كل الجِدّة على أبي» تُبدّل وتقلّب وتغيّر كل ما تركته الأم. وتعمل بإيقاع هذه العقدة النفسية المتنامية، على كل ما يبعد الأم عن ذهنه، لتجعل من نفسها البديلة. وتصل يدها أخيراً إلى صورة المرحومة المؤطّرة والموضوعة على طاولة في الصالون، فتنتزعها من مكانها، ثم تخفيها عن عيني والدها، داخل الخزانة. «انتصرتُ في أعماق أبي على ذكرياتها، وإنني أخذته منها نهائياً. لقد حان موعد إخفاء صورتها من الصالون إلى الأبد». ولأنها تريد الاستئثار به لوحدها، تطرد كل نظرة إعجاب بأبيها، أو إطراء تبديه زميلاتها حياله. وتساورها الشكوك عندما يتأخر في العودة إلى المنزل. وتتفاقم في نفس البطلة هذه النزوة الشاذة باختراق المحرّم. ويحتدم الصراع في نفسها بين شعورين متناقضين: الشعور الواقعي الطبيعي بالعاطفة التي تكنّها الفتاة عادةً لأبيها، والشعور اللا طبيعي النزوي الذي يشذّ عن مسار الواقع والإحساس الطبيعي. تكابد بطلة «الرواية الملعونة» مكابدة نفسية عميقة، وتساورها أعراض اكتئابية ووسواسية في سعيها إلى امتلاك الأب. ولكن معظم ما يدور هو داخل الذات، وفي تلافيف المخيلة. وحيث تضغط عليها القيم الأخلاقية العامة والتقاليد والأعراف السائدة، على رغم محاولتها التحرر منها، فإنّ علامات التمرّد وأجيج الرغبة الحارقة، تنحصر في عملية استرسال ذاتي، وعبر تقنية المونولوغ التي ترصد هذه التقلّبات النفسية والاضطرابات الوجدانية والتداعيات التي تعتمل داخل البطلة. هذه التقنية تشكل فضاءً وسيعاً لحركة البوح، ورسماً للخط البياني لعوامل الصراع الداخلي والسرّي الدفين، المتفلّت من رقابة الأخلاق العامة. وهذا ما يجعل من «الأنا» المهيمنة الطاغية الساردة «أنا» متحررة من أغلال الواقع، تغترف من أعماق المكبوت والمحظور ما شاء لها أن تغترف. وفي هذه الحال تنكفئ على ذاتها، وتتضخم نرجسيتها، وتهمّش كل صوت آخر، بما فيه صوت أبيها الذي نسمعه من خلالها. فالعالم الخارجي ينحسر إلى حدود كبيرة داخل أسوارها الذاتية. وتشكّل زميلاتها وأطباؤها وأخواها وخادمتها خلفية ثانوية لحركتها. بل نرى الأب نفسه من خلال منظورها شخصاً حيادياً وبريئاً، إلى حدٍ كبيرٍ، من كل المشاعر والأحاسيس والنزوات التي تسقطها عليه البطلة. ولا نعلم ماذا يدور في خلده، وما هو موقفه الحقيقي، ولا تظهر عليه عوارض قلق أو صراع إلّا عندما يعلم بمرض ابنته بالقلب. ظلّت حركة النزوع لدى البطلة إلى التمرّد كسيحة، ومعزولة عن الواقع. وما تلجلج في صدرها من رغبات محرّمة، وثورة على الأوضاع والتقاليد التي تصفها بالهُراء. بقي طي العالم الباطني، ولم يُترجَم في الخارج سلوكاً أو تصرفاً أو احتجاجاً مسموعاً.