عندما أستعيد شريط قراءاتي الشعرية، أجد أنني لم أكن ميالاً إلى الشعراء ذوي الأصوات العالية، فأنا بطبعي لا أحب الضجيج والصراخ داخل النصوص الشعرية، ولا أستسيغ الأنا الشعرية التي تعبر عن مآزقها الوجودية بطريقة فجَّة، أشبه بمن يطرق على قدر الطبخ بملعقة، ليؤلف جملة موسيقية أو ليلفت الانتباه إلى موهبته في العزف. ولكنّ الأمر كان مختلفاً مع شاعر كمحمد الماغوط، الشاعر الممتلئ بصراخ إنساني وجوع دائم إلى الحياة والأمن والكرامة والطعام والحرية، فهو شاعر يختصر في ذاته كل فقراء العالم ومضطهديه، وكأنما ذوّب كل آلام البشرية في كأس وجوده ثم شربها دفعة واحدة، وفي ما بعد قام بتمثّلها في كل نص كتبه، فروحه مزدحمة بأوجاع لا حدود لها، أوجاع تتدافع في داخله للخروج عبر كل جملة كتبها شعراً أو نثراً، لذا كان ضجيجه الشعري مبرّراً قياساً إلى حجم مخزونه من الألم الذي لا يدّعي وصاله ولا يفتعله. كانت أول مصافحة لي مع إبداع محمد الماغوط، من خلال بعض مسرحياته التي كانت تعرض على الشاشات، بالتعاون مع الفنان دريد لحام، ثم من خلال مجموعة أعماله الصادرة عن دار العودة، اذ علّمني بسخريته المعهودة أن الفرح مهنةٌ لا يجيدها، وأنّ الغرفة (أية غرفة) قد تكون سجناً بملايين الجدران، وأنّ في فمه فماً آخر وبين أسنانه أسنان أخرى. محمد الماغوط الذي نادى الشعر ب«الجيفة الخالدة»، وأبدى سأمه منه لم يكن يعلن وفاته بقدر ما كان يعلن أنّه موشوم بآلام الإنسان وعذاباته، تلك الآلام التي تزكم الأرواح والضمائر الحية، والدليل أنه نعت الجيفة بالخلود، فهي جيفة تنبعث منها روائح لا حصر لها، ولكنها خالدة بما لها من قدرة على اختراق الأزمنة، واستضافة هموم وأوجاع جديدة لأجيال ستأتي لاحقاً، حتى آخر إنسان يعيش على هذه الأرض. لم تكن قصيدته مثقفة ومتعالية كما هي حال معظم شعراء مجلة «شعر»، ولكنها كانت بسيطة وعميقة، تمتح مادتها من الحياة لا من الكتب والنماذج السابقة عليها. كانت تأتأة رضيع بين فصاحة وبيان كبار يجيدون المرافعات الشعرية والقصائد البليغة، وحسبها أنها كانت تخرج من قاع الوجع الإنساني ملطخةً بآثار بدائيتها وبراءتها، لذا كانت أصدق في الوصول إلى قلوبنا، وأقدر على إصابة الشعر من تلك القصائد المثقفة. هكذا هو بالنسبة لي شاعر يصرخ في بريّة قصيدته ليصلني صدى ألمه، الذي هو ألمي في الوقت نفسه، ولأكون عضواً فعّالاً في تنظيمه الشعري لا تابعاً يمجّد قصائده وفتوحاته، إنّه أنا في أحلك لحظات وجودي، عندما لا أجد لي مؤاسياً سوى قصيدة تشبهني من قصائد محمد الماغوط.