المأزق الذي يواجهه العراقيون هذه الأيام لا يحتاج إلى دلائل. والمعركة على رئاسة الحكومة المقبلة تخوضها الكتل الأربع الكبرى بأسلحة عدة. ولا تقتصر عليهم وحدهم. بل يستدعون الخارج، أو «يحجون» إليه استقواءً. والمهم في هذه المرحلة من الصراع اكتفاء المتنافسين بالتحذير من العنف، إذا لجأت التحالفات المحتملة إلى عزل أي من الكيانات التي تمثلها هذه القوى الأربع. وهو تحذير ينم عن إدراكها خطورة العودة إلى الحرب الأهلية. ولا يبدو أن ثمة مصلحة للاعبين الكبيرين، الولاياتالمتحدة والجمهورية الإسلامية، في دورة عنف قد تطيح بالنفوذ الذي تتقاسمانه في بغداد، وإن كانت أرجحيته لطهران. لا بد إذاً، من لعبة توازن دقيقة. ولا بد معها من تضحيات ما دام أن النتائج لم تثمر أكثرية مريحة لأي من الأطراف الأربعة. ويعبر المشهد الحالي للتطورات والحراك السياسي خير تعبير عن حرص على هذا التوازن. ففي الداخل قبل الخارج سباق محموم لعقد التحالفات التي لم تثمر حتى اليوم اعلاناً أو موقفاً واضحاً. لكن الواضح أن الزعيمين المتقدمين، إياد علاوي ونوري المالكي سيدفعان ثمن ما يجرى على الأرض بعيداً من نتائج صناديق الاقتراع. فزعيم «القائمة العراقية» لا ترغب طهران في رؤيته متربعاً على كرسي رئاسة الوزراء... وبينها وبينه ما صنع الحداد. كما أن الكتلتين الشيعيتين الكبيرتين لا تحتملان لأربع سنوات سلطة رجل علماني قد يبدل في وجه الحكم وصورته. وهما تعتبران أنه «رجل» الأميركيين، ويعبر عن تطلعات السنة في العراق ودول الجوار! والصورة التي غاب عنها علاوي في طهران وجمعت ممثلي الكتل الثلاث الأخرى مثال على هذا النفور من الرجل. فضلاً عن أن «هيئة المساءلة والعدالة» التي نجحت قراراتها في إبعاد مرشحين من كتلته عشية الانتخابات، تواصل اليوم معركتها السياسية لحرمانه من فوزه بالموقع الأول في عدد المقاعد. وهو أمر أثار قلق الأممالمتحدة، وحفيظة الولاياتالمتحدة التي اتهمت إيران بأنها وراء الهيئة وقراراتها. وهي قرارات استفزت ولا تزال مشاعر قواعد «العراقية» خصوصاً في الأوساط السنية التي هدد بعضها بالعودة عن أجواء المصالحة... إلى الحرب الأهلية. أما المالكي، القريب من طهران وغير البعيد من واشنطن، فمشكلته مزدوجة مع هذين الطرفين، فضلاً عن مشكلته مع حلفائه القدامى الذين أوصلوه إلى سدة الرئاسة. وبعدما خذل مساعي الإيرانيين بإحباطه التحالف مع «الائتلاف الوطني» عشية الانتخابات، لا يزال بعدها عقبة أمام مثل هذا التحالف. وهو يدفع اليوم ثمن مواقفه في السنوات الأربع الماضية: لا التيار الصدري يريد أن ينسى ما فعله بميليشياته ومعتقليه في حملاته الأمنية من البصرة إلى مدينة الصدر. ولا رفاقه في «حزب الدعوة» يغفرون له تفتيت الحزب ثلاثة أحزاب. ويجاهر خصومه بأنه خانهم ويحاول بناء «ديكتاتورية» باستئثاره بالسلطة. ولم يتورع التيار الصدري عن وصفه بأنه «أسوأ من صدام»! ويأخذ عليه جمهور «العراقية» سكوته على قرارات «هيئة المساءلة والعدالة» عشية المعركة الانتخابية... وإن حاول إرضاء الغاضبين بفتح باب القوات المسلحة أمام كثير من العسكريين المسرحين. وهذا أيضاً ما أغضب واشنطن التي تأخذ عليه كذلك سكوته على التدخل الإيراني. ولا حاجة إلى التذكير بمعركته مع سورية واتهامها بدعم «الارهاب البعثي» والتلويح بالذهاب إلى مجلس الأمن والمطالبة بتحقيق دولي! ولا حاجة إلى التذكير أيضاً بانقطاع الجسور بينه وبين عدد من الدول العربية. أما التحالف الكردي فمشكلته مع الرجلين قضية أخرى. فهو لا يغفر للمالكي «مماطلته» في موضوع كركوك وتنفيذ المادة 140 من الدستور بخصوص الأراضي التي تطالب بها كردستان. كما لا يغفر له تحريكه قبل مدة لواء من الجيش إلى حدود الاقليم. وهو تحريك أنعش ذاكرة الكرد حيال ما فعلته بهم الحكومات المركزية سابقاً. مثلما أثارت فيهم بعض الأصوات المنضوية في «القائمة العراقية» المنادية برئاسة الجمهورية للسنة العرب. وإذا كان الأكراد يرتاحون إلى تيار عمار الحكيم المنادي بالفيديرالية لمحافظات الجنوب، اسوة بالشمال، إلا أنهم يواجهون مأزقاً مقيماً. فلا النفوذ الراجح والمتنامي لإيران يريحهم، ولا الإلحاح على دور عربي لموازنة هذا النفوذ يطمئنهم إلى المستقبل. وهاجسهم الأول والأخير عدم قيام حكومة مركزية قوية وجيش مركزي قوي قد يكرر التاريخ القديم بمغامراته ومآسيه. لذلك يرفع التحالف الكردي شروطاً قاسية، منذراً بأنه لن يتساهل هذه المرة كما حصل مع حكومة المالكي سابقاً. يبقى أن «الائتلاف الوطني» (الحكيم والصدر) الأقرب إلى طهران والمجاهر بعض أطرافه بالعداء للأميركيين، يجد نفسه في موقع القطب الأقوى في المعركة على رئاسة الوزارة، على رغم كونه جاء ثالثاً في نتائج الانتخابات. ويحاول، بدعم إيراني واضح، أن يستثمر هذا الموقع أحسن استثمار. بمعنى أن أي تحالف سيقوم سيكون محكوماً بشروطه. الأمر الذي يحد من حرية رئيس الحكومة المقبل. لو لم تكن ظروف العراق على ما هي من انقسامات مذهبية واتنية في ظل موازين داخلية وخارجية دقيقة، لكان البلد أمام احتمالين تعودتهما دول العالم الثالث: خروج العسكر من ثكنه لتولي السلطة واقصاء السياسيين تحت شعار «إنقاذ الديموقراطية»... أو اللجوء إلى الشارع مع ما قد يجره ذلك من فوضى وأعمال عنف تعمق الأزمة بتداعياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. لكن هذه الموازين بانعكاساتها السلبية وما تنتج من شلل في مسيرة الديموقراطية ومواصلة العملية السياسية وبناء المؤسسات - كما هي الحال في لبنان وفلسطين والسودان أيضاً - قد تكون لها وجوه إيجابية إذا ظلت في إطار الموقت والمرحلي. والحرص على هذه الموازين الدقيقة هو ما ينتهجه العراقيون إلى حين. لجأوا إلى المحكمة الدستورية للفصل في موضوع المرشح لرئاسة الحكومة. فأفتت بأنه صاحب أكبر ائتلاف داخل البرلمان، وليس الأول في نتائج الانتخابات. أي ليس علاوي بالضرورة، بقدر ما خدمت الفتوى ائتلاف «دولة القانون». وهو رأي له قيمة قانونية معتبرة وعمل مؤسساتي تلجأ إليه الديموقراطيات العريقة. ولكن إذا كان ذلك يعني حرمان زعيم «القائمة العراقية»، فلا بد من مواقف للكتل الكبرى الأخرى للتأكيد أن هذا الحرمان ليس اقصاءً. ولم يتأخر السيد عمار الحكيم في إعلان رفضه إقصاء «القائمة العراقية» والاساءة الى رموزها. بل اعتبرها «شريكاً حقيقياً في العملية السياسية». ورفض إطلاق تسمية البعثية على كتلة علاوي الذي وصفه برفيق نضال. وأكد رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني والقيادي في العراقية نائب رئيس الوزراء رافع العيساوي ضرورة انبثاق حكومة ائتلافية تستند الى مبدأ «التوافق والمشاركة». ولجأ التيار الصدري، الجناح الأكبر في «الائتلاف» إلى استفتاء شعبي على شخصية رئيس الوزراء. وهو بالطبع استفتاء غير دستوري وغير ملزم... لكنه قد يساهم في تخفيف التوتر! وتوج المرجع الشيعي الأعلى آية الله السيد علي السيستاني هذه المواقف بدعوته الكتل الفائزة الأربع الى تقديم تنازلات تسهل من تشكيل الحكومة بأسرع وقت، مشدداً على ضرورة ان تكون «حكومة وحدة وطنية لا حكومة محاصصة». كل هذه المواقف لتجنيب بغداد أزمة موضوع رئاسة الحكومة، لا تعمي العراقيين عن عمق التأثير الخارجي ووجوب التواصل مع الجيران من أجل الحفاظ على ميزان القوى القائم في الداخل. فالسيد علاوي الذي ندد بزيارة خصومه (الشركاء المحتملين) لطهران وتدخلها، تساءل: «لماذا لم توجه إلينا الدعوة؟» وأبدى استعداده للتواصل مع جميع جيران العراق بما في ذلك ايران. وفي الجهة المقابلة، بدأ عادل عبد المهدي (أحد قادة الائتلاف الوطني) جولة في دول الجوار، مؤكداً ضرورة انفتاح بلاده على هذه الدول. هذه «التمارين» العراقية، مهما طالت، ستظل أمام خيارين لا ثالث لهما: الوصول إلى طاولة مستديرة أو مربعة للفائزين الكبار لتقاسم المواقع في حكومة وحدة وطنية أو شراكة، هي استمرار للمحاصصة بين المكونات الداخلية، واستمرار أيضاً للمحاصصة بين العناصر الخارجية من الاحتلال الأميركي إلى التدخلات الإيرانية والعربية ما دام أن واقع «لا غالب ولا مغلوب» لا يزال غالباً في بلاد الرافدين... وإن كانت الغلبة واضحة للجمهورية الاسلامية. وخلاف هذا الخيار العودة إلى الحرب الأهلية لعلها تشغل أهل الاقليم بديلاً موقتاً من انسداد الأفق في حلحة أزماتهم العصية.