بوسع العالم العربي أن يفتخر بامتلاك مصادر قوة استثنائية. فهو مهد ديانة عالمية نزل قرآنها الكريم باللغة العربية، فيما تمتد أراضي العالم العربي من المحيط إلى الخليج ويحظى بموارد وافرة من النفط والغاز ويضمّ مدناً قديمة تحمل معالم الحضارات القديمة ويحظى بشعوب شابة ومفعمة بالحياة وطامحة إلى التغيير. لكن العالم العربي يفتقر إلى ميزة أساسية وهي الديموقراطية. تهدف «مبادرة الإصلاح العربية» إلى تحديد موطن هذا الخلل ومعالجته. فهي محاولة جريئة قامت بها شبكة مستقلة مؤلفة من عشر منظمات عربية تُعنى بالأبحاث من أجل تسليط الضوء على الممارسات السيئة ومكافأة الجهود الجدية والترويج لديموقراطية حقيقية في أرجاء المنطقة العربية. واعتمدت هذه المبادرة مبدأً مفاده أن الشعب هو مصدر القوة. يُعتبر التقرير الثاني ل «مبادرة الإصلاح العربية» بعنوان «وضع الإصلاح في العالم العربي للعام 2009 – 2010» الذي نشره مقرها الرئيسي في باريس خلال الأسبوع الماضي بمثابة مراجعة دقيقة لعملية الانتقال الديموقراطي في الجزائر ومصر والأردن والكويت ولبنان والمغرب وفلسطين والمملكة العربية السعودية وسورية واليمن. ويلفت التقرير إلى وجود ميل نحو الانتقال الديموقراطي في المنطقة ككّل، إلا أن هذا الأمر يبقى متفاوتاً وبطيئاً. فضلاً عن ذلك، يتمّ أحياناً فرض هذا الانتقال من الخارج بدل أن يصدر عن مبادرة داخلية. والتقرير مبنيّ على مؤشر الديموقراطية العربي الذي يصنّف كل بلد بالاستناد إلى مؤشرات متعددة ومفصّلة. وتبدو الخلاصات التي توصّل إليها التقرير قاتمة. فقد تمّ إحراز بعض التقدّم في أمكنة محدّدة لا سيما لجهة تقليص مستوى الأمية والمساواة في الرواتب بين النساء والرجال وتراجع الرقابة على المطبوعات وتأمين السلامة الشخصية، إلا أن انتقال العالم العربي إلى الديموقراطية لا يزال في مرحلة بدائية. وتمكّن التقرير من رصد تراجع إلى الوراء في بعض الحالات. فسجّلت كل من اليمن وفلسطين تراجعاً في التقدم نحو الديموقراطية بسبب العنف والنزاعات الداخلية فيما سجلت كل من سورية والمملكة العربية السعودية اللتين يحكمهما حاكمان عصريان تراجعاً في مجال احترام الحريات. بالمقابل، حاز الأردن يليه المغرب على أعلى نقطة في عملية الانتقال الديموقراطي على رغم أن كلاً من البلدين حصل على علامة متدنية على صعيد مسائل تتعلق بتدخل قوات الأمن وتنظيم الاجتماعات والاحتجاجات. وحصلت كافة البلدان العربية على صفر عند تقييم مؤشر أساسي يتعلّق بإساءة معاملة المعتقلين. ولا يقدّم التقرير تفاصيل إضافية حول هذا الموضوع إلا أن المنظمات الأخرى مثل منظمة العفو الدولية تندّد دوماً بضرب المعتقلين في السجون العربية وبسجن الناشطين في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية في السجون ذاتها مع المجرمين العاديين، وذلك في زنزانات قذرة ومكتظة تغزوها الجرذان، ومنعهم من الحصول على الأدوية اللازمة وأحياناً حرمانهم من أبسط وسائل الراحة مثل الفراش. كما يشير التقرير إلى أن غياب الديموقراطية قد يؤدي إلى عدم استقرار سياسي فضلاً عن مشاكل أمنية. وفي المشرق العربي، تفتقر المجموعات الحاكمة التي تتحالف أحياناً مع قوات الأمن وأصحاب رؤوس الأموال إلى الإرادة السياسية من أجل تطبيق الإصلاح. وفي شمال أفريقيا والمغرب العربي، ضاعفت الأنظمة الحاكمة سلطتها بغية مقاومة الضغوط التي تمارس عليها من أجل تطبيق الإصلاح. وفي بعض الحالات، قامت هذه الأنظمة بإصلاح التشريعات فحسب لتفادي إصلاح الممارسات الحالية. وانتشر في أنحاء المنطقة منهج السرية. فلفت التقرير إلى أنه كلما كان النظام استبدادياً كلما ضيّق الخناق على عملية الوصول إلى المعلومات. يستند مؤشر الديموقراطية العربي إلى قراءة 40 مؤشراً مختلفاً ترتبط بعملية فرض الديموقراطية. وتقيس هذه المؤشرات التي تمّ اختيارها مسائل سياسية واقتصادية واجتماعية يومية تعكس في مجملها جوانب عملية اتخاذ القرارات بطريقة ديموقراطية. كما أنها تضمّ أربع قيم أساسية هي: وجود مؤسسات عامة قوية ومسؤولة، واحترام الحقوق والحريات، وقيام دولة القانون، والمساواة والعدالة الاجتماعية. يعتبر المؤشر بمثابة عرض رقمي لعملية الانتقال الديموقراطي. وفي ما يلي بعض المؤشرات المستخدمة لتكوين المؤشر: إجراء انتخابات دورية وعادلة وامتلاك حرية تشكيل أحزاب سياسية والحق في الاجتماع ووجود ضمانات ضد التعذيب وضمان حرية الإعلام واستقلال القضاء والمساواة بين الجنسين ومحاسبة الحكومة، إلى جانب النظر في الفساد في المؤسسات العامة واللجوء إلى الواسطة في عملية التوظيف العام وخرق الدستور وإساءة معاملة المعتقلين وقمع التظاهرات والاحتجاجات وتدخل قوات الأمن وانتقاد السلطات ووجود صحف ومجلات معارضة والرقابة على المطبوعات والمواقع الإلكترونية والاعتقال من دون تهمة ومحاكم أمن الدولة وقدرة منظمات حقوق الإنسان على العمل والسلامة الشخصية والتعليم ومشاركة المرأة في اليد العاملة والمساواة في الرواتب ومستوى الإنفاق العام على الحاجات الاجتماعية مقارنة بالأمن. يقرّ معدو التقرير بوجود بعض نقاط الضعف في المنهج الذي يتّبعونه. فمقاربة الكمية لا تدلّ بالضرورة على النوعية. إذ أن إحصاء عدد الأحزاب السياسية مثلاً في نظام معيّن لا يدل على وضع هذه الأحزاب وجديتها، كما أن عدد السنوات التي أمضاها المرء في المدرسة لا يدل على نوعية التعليم الذي تلقاه. فضلاً عن ذلك، لا توجد صيغة واحدة تحدّد الانتقال إلى الديموقراطية بغض النظر عمّا إذا كانت إيجابية أو سلبية. إضافة إلى ذلك، ليس من السهل ولا من العدل إجراء تصنيف بين بلدان تختلف أنظمتها السياسية والاجتماعية في ما بينها. وعلى رغم هذه الملاحظات، تستحق محاولة تحليل وتصنيف البلدان وفق المؤشر الديموقراطي عناء الجهود المبذولة. فقد تطلّب ذلك عملاً ميدانياً مكثفاً قام به عدة فرقاء في عشرة بلدان على مدى أشهر. واضطر أعضاء الفريق العامل في سورية البقاء مجهولي الهوية خوفاً من أن يتعرضوا للأذى. وخلص التقرير إلى أن الشعوب في أنحاء المنطقة العربية لا تثق بأداء المؤسسات العامة. فالواسطة في عملية التوظيف العام منتشرة في كل مكان تقريباً إلى جانب ارتفاع الفساد في المؤسسات العامة وإساءة معاملة المعارضين السياسيين والاعتقالات الاعتباطية وإساءة معاملة المعتقلين وعدم القدرة على تنظيم اجتماعات وتظاهرات عامة وارتفاع الإنفاق العام على الأمن عوضاً عن التعليم والعناية الصحية. لا يتسع المجال هنا لعرض التوصيات المفصلة التي قدمها التقرير إلى البلدان العشرة التي قام بمسح الأوضاع فيها، لكن يمكن تلخيصها على الشكل الآتي: * يحتاج العالم العربي إلى ضمان قدر أكبر من الحريات السياسية والمدنية لمواطنيه. * تكمن مسائل العدالة الاجتماعية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في قلب عملية الإصلاح ويجب أن تتم معالجتها. * يجب تخصيص موازنات أكبر لمكافحة الأمية وتقليص معدلات الهرب من المدرسة وتحسين ظروف التعليم لا سيما بالنسبة إلى النساء. * أخيراً ثمة حاجة إلى تعزيز المؤسسات العامة لا سيما البرلمانات والقضاء والسلطات المسؤولة عن فرض القانون والنظام. يُعتبر هذا التقرير فريداً من نوعه وينبغي على كل زعيم عربي قراءته والتمعّن فيه. فلا يسع العرب ألا يحركوا ساكناً في عالم يشهد تغيرات تكنولوجية وجغرافية سياسية متسارعة. * كاتب بريطاني متخصص في قضايا الشرق الأوسط