لاحت النذر المقلقة من خلال كتابات كثيرة تنوعت مداخلها واتحدت نتائجها، لكنها تتجدد ويبرز بريقها في شكل خاص في كتاب «انتحار الغرب» الذي صدره الكاتبان البريطانيان ريتشارد كوك وكريس سميث ببداية مفزعة عن سؤال الهوية ذلك الذي يؤرق الغرب بصفة عامة بعد شوط زمني ممتد شهد أطواراً متعددة لأبعاد الهوية وجوهرها وتجلياتها والآن يعاني ذلك الغرب من وجود المعنى المطموس لها. لذلك يتساءلون من نحن؟ بعد أن صارت الهوية متعددة ومتشظية ولا مركزية عابرة يجب رتقها، من ثم تقدم أطروحة «انتحار الغرب» تساؤلات عدة في إطار: هل ستصير الهوية الغربية خليطاً بلا معنى مشخصناً؟ وهل القومية في الغرب بدأت تطل برأسها البغيض مرة أخرى؟ وهل ستحدد أوروبا وأميركا خلافاتهما وتقيمانها؟ وهل يجب علينا أن نسعى إلى اسم عام لهوية العالم؟ وهل تستطيع هذه الفكرة أن يكون لها أي معنى حقيقي؟! وهل الهوية الغربية تمتلك حقاً رنيناً في المستقبل؟ على رغم ما تتميز به هذه الهوية الغربية من أنها قائمة على أساس من التاريخ والجغرافيا المشتركين وعلى مجموعة من الهويات القومية التي تمتلك الكثير من التشابهات، وكذلك تتسق مع تدفق الحوادث التاريخية والاقتصادية والسياسية في القرن العشرين وتعكس الحقيقة الواقعة حول وجود عقلية مشتركة لدى كل الغربيين وهو ما جعلها تسمح بالاحتفاء بالاختلافات العرقية والمحلية والقومية بل بمختلف الهويات دون القومية والعابرة للقومية أيضاً من ثم فهي تمتلك محتوى أخلاقياً واجتماعياً مادياً يؤكد حقيقة وجود مجتمع مشترك له جذور جغرافية مع تراث ثقافي يعتمد على المثل العليا للقيمة الانسانية والمسؤولية والإمكانية ويحتضن التنوع والفردية. وتتجه رؤية ريتشارد كوك - كريس سميث نحو أنه إذا كانت الحضارة الغربية قد علقت أهمية كبرى على قداسة الحياة الإنسانية وكرامتها وعلى التعليم والمساواة في الفرص وحرية الأفراد واستئصال الانحياز ضد الأفراد والجماعات وتعزيز العلم والفنون وتخفيف المعاناة البشرية، لكن على رغم كل ذلك فإن مكمن الخطر إنما يتمثل في تلك الأفكار والممارسات المسؤولة عن التفوق الغربي والتي باتت متأصلة في أنماط الفكر والسلوك ومتغلغلة في جنبات اللاشعور وهي: المسيحية، التفاؤل، العلم، النمو الاقتصادي، الليبرالية، الفردية ذلك باعتبارها مجموعة متلاحمة من الفكر والمعتقدات والممارسات والأفعال التي سبق وأن كانت محددات لحضارة عظيمة ثم باتت مهددة لهذه الحضارة الغربية تهديداً فادحاً؛ لأن معظم الغربيين لم يظلوا مؤمنين بها وهو ما ألجأ ريتشارد كوك إلى استدعاء جملة تساؤلات على غرار: هل يمثل ذلك نوعاً من الخصوصية في شأن الحضارة الغربية؟ وإذا كانت هذه الحضارة قد حققت مستويات رفيعة من التفوق فلماذا هي مهددة الآن؟ وهل ستبقى أم ينتظرها الزوال؟ وهل نستطيع أن نقاوم الاتجاهات التي تدفع بها نحو الاندثار ونعكسها؟ وهل هذه الاتجاهات حتمية من الناحية الهيكلية؟ ذلك أن انتحار حضارة يعني النهاية الطوعية الذاتية التي تفرضها تلك الحضارة بنفسها على نفسها أو النهاية العرضية غير المقصودة لحضارة عظيمة ... إنها نهاية لم يصنعها الأعداء الخارجيون ولكن صنعها الغربيون أنفسهم بما يفعلونه وبما يخفقون في أن يفعلوه أيضاً، ذلك أن الليبرالية هي أيديولوجية الانتحار الغربي باعتبارها إحدى تعابير التناقض والانهيار إذ تسمح بأن تكون متصالحة مع فنائها!! إذ أن الروابط الاجتماعية قد تراخت والآمال قد صارت فردية والمخاوف جماعية بما يشير إلى أن الغرب يكاد أن يكون منوماً بقوى مؤذية، أخطر منها أن هذا الغرب قد فقد إيمانه بفكرة محاولة السيطرة على تلك القوى، فالتشظي ينتصر ويأخذ السلطة من السلطات العامة والمؤسسات المجتمعية ويفوضها إلى الأفراد وهو ما يؤكد محالة أن يهيكل المجتمع من أجل الخير المشترك، من ثم فليس مستغرباً وجود دلائل كثيرة على التفكك الاجتماعي والاستهلاكية القسرية والانحطاط والتواكل والأنانية الشخصية الساحقة. كما تشخص أطروحة «انتحار الغرب» بعض جدليات علاقة الغرب والبقية في إطار مجموعة استراتيجيات بعضها يمثل آفات ثقافية قابعة في لباب العقل الغربي منها: الشمولية الغربية تلك المرتكزة على أن الغرب إنما يمثل الحداثة تمثيلاً منطقياً وأن كل المناطق المهمة من العالم سوف تتحول تحولاً طبعياً عاجلاً أم آجلاً نحو الليبرالية بحسب النموذج الغربي، أما الأخرى فهي الاستعمار الإمبراطوري الليبرالي وهو ما يعني الاعتقاد أنه على الغرب أن يدفع بالديموقراطية وبالرأسمالية إلى الأمام وفي كل أنحاء العالم بل بالقوة إذا دعت الضرورة، ومدخل آخر يطلق عليه (العالم – أميركا) وتتجه الرؤية فيه نحو أن العالم سيكون أكثر سعادة وأمناً إذا فرضت أميركا وحلفاؤها سلاماً شاملاً وسياسات اقتصادية مشتركة من دون قلق كثير حول زخارف الديموقراطية، كذلك نموذج (الغرب - القلعة) فقوامه أن يتراجع الغرب إلى نفسه حامياً لحضارته متخلياً بفاعلية عن شأن بقية العالم، أما عن محور الرأي الدولي (الكوزموبوليتاني) فهو يري أن الغرب والبقية سوف يلتقون لقاء طبيعياً نحو قيم ثابتة ومؤسسات مشتركة، ثم تأتي استراتيجية التعايش والجاذبية وهي تنطلق من احترام التنوع الحضاري مارة بالرغبة في التعايش معها وإعطاء حياة جديدة للمثل العليا الغربية وانتهاء باجتذاب البقية إلى الغرب. وبصفة عامة تقدم الأطروحة رداً على محاولة تفعيل هذه الاستراتيجيات في توجهاتها السلبية لأنه لن يكون العالم بوتقة انصهار ولا سيتبنى القيم الغربية تبنياً طبيعياً وأن فرض ذلك بالقوة أو تقديمها قسرياً إنما هو عمل غير ليبرالي وغير عملي وغير مجد، من ثم فالبديل الضروري بالنسبة للغرب هو احترام الاختلافات الثقافية وممارسة الصبر والايمان بأفضل أفكاره ونشر نفوذه بالقدوة وأن يترك الأفكار ونتائجها تتكلم عن نفسها، فما من حضارة قوية وواثقة بنفسها يمكن يتوقع منها أن تفعل أي شيء آخر. وإذا كان الغرب قد ضرج نفسه وأعداءه بالدماء فهل تطورت الحضارة الغربية الى النقطة التي يمكن فيها كسر دائرة الكراهية المتبادلة؟ وهل يؤمن الغربيون فعلاً بالحرية؟ وهل ستكون السياسية الخارجية الغربية مستندة إلى استراتيجية الاجتذاب؟ وهل ستتوحد أميركا وأوروبا لكي يعرضا تراثهما محققين إمكانية حضارة مشتركة؟ أو هل سيخطف الغرب الهزيمة من فكي النصر؟!. * كاتب مصري