جسّدت مبادرة السلام العربية من دون مواربة ميزان قوةٍ يميل لمصلحة إسرائيل، وإقراراً بالعجز (أقله مرحلياً) عن تحرير الأراضي التي احتلتها إسرائيل (باستثناء سيناء) في حرب العام 1967، ناهيك عن تحرير فلسطين. أدارت التسوية بآخر نسخها ظهرها للاءات الخرطوم الثلاث في محاولةٍ لإعادة إنتاج اتفاقات كامب ديفيد (المصرية - الإسرائيلية) على مستوىً أكثر عموميةً. بهذا المعنى، قدّم العرب كلّ التنازلات الممكنة ومضت السلطة الفلسطينية أبعد من ذلك حتى لم يعد لديها ما تتنازل عنه إلاّ التبجّح على لسان أحد أركانها أنها لن تسمح لإسرائيل بجرّها مجدّداً إلى المربّع الأمني ودفعها نحو انتفاضةٍ ثالثة. هكذا أدرك أحدهم متأخراً أنّ إسرائيل تملك ما يكفي من القوة لفرض إرادتها السياسية، وكذلك ما يكفي من الدهاء لتملي على خصمها إرادته السياسية. تصوّرت المنظومة العربية، في محاولات قراءتها البراغماتية لهواجس ومخاوف إسرائيل، أنّ حاجات إسرائيل لوجود آمن ضمن حدودٍ يمكن الدفاع عنها هي التي تملي عليها استراتيجياتها التوسعية وسياساتها العدوانية، ومن هنا تبلورت فكرةٌ مفادها أنّ إشباع هذه الحاجات عبر معادلة الأرض مقابل السلام كافية، وتسحب بالتالي ذرائع العدوان عبر تفويضٍ يوفر الأمن والاستقرار. لكنّ رفض إسرائيل العملي للمبادرة ومضيها قدماً في تصعيد عدوانيتها ووحشيتها منذ إعلانها أذهل العرب وجعلهم يتساءلون عن جدوى معادلتهم الأساسية ويحيلون السؤال إلى المرجعيات الدولية (الغربية خاصة) التي أوحت بها وساهمت في توطيدها بصفتها الخيار الوحيد الممكن والمتاح. بيد أنّ السؤال الأهمّ يتعلّق بما تريده إسرائيل أو ما تحتاجه فعلاً لضمان مستقبلٍ آمنٍ في محيطٍ تراه معادياً على طول الخط. وهو أمرٌ لم تعلنه إسرائيل يوماً على لسان قادتها (سياسيين وعسكريين) سواءٌ أكانوا من الجيل المؤسس أم من الأجيال التي تلت، وآخرها ما يمثّله الائتلاف اليميني المتطرف الحاكم حالياً في تعبيره عن خلاصة أفكار او مصالح مستوطني الأراضي المحتلة بعد العام 1967. فخارج البلاغة المبتذلة وإغواء اللعب على الكلمات الذي يتقنه ساسة إسرائيل، لا يمكن تلمّس الإجابة عن السؤال إلاّ في مضمون استراتيجيةٍ تتجسّد وقائع على الأرض، وتنطق من دون لبس بأسس رفضها للتسوية السلمية. أسطرة الواقع ووقعنة الأسطورة كانتا أساس نجاح إسرائيل منذ إنشائها في جعل ما تفرضه من وقائع على الأرض سياسة معلنة تنجز مرحلةً وتؤسس لمرحلةٍ أخرى. فمنذ البداية، ضمّت إسرائيل 6800 كلم مربع من الأراضي زيادةً على ما حدده قرار التقسيم حصةً لها. وفي العقدين التاليين، رسّخت في وعي العرب اعتبار صراعهم معها صراع وجودٍ لا صراع حدود، ولو أنهم تفادوا بالكاد الانزلاق إلى جعله صراعاً دينياً وحرب مقدسات على خلفية مدٍّ قومي/ تقدمي مشوبٍ بعلمانيةٍ ميزت بين ما هو يهودي وما هو صهيوني، على رغم أنّ مطلب إسرائيل الثاني بجعل القدس عاصمةً موحدةً أبديةً لها كان يدفع باستثارته للوجدان الديني نحو تبني تصوّر الدفاع عن المقدس. احتاج جيل المستوطنين الأوائل ثلاثة عقودٍ تمفصلت على ثلاث حروبٍ للخروج من أتون أسطورة القومي / الديني وعقلنتها بحسابات السياسة البعيدة المدى - إخراج مصر من المعادلة مقابل التخلي عن جزءٍ من أرض الميعاد. ربما بدأ الشرخ منذ هذه اللحظة، ولو أنّ جذوره تعود إلى عقودٍ أسبق وتنغرس عميقاً في تربة خرافة «شعب بلا وطن لوطنٍ بلا شعب»، وحان منذ تلك اللحظة وقت ترميمه. في حربهم الأولى، تخلص المستوطنون الأوائل من القسم الأكبر من الفلسطينيين، لكنّ جزءاً آخر بقي شوكةً في حلوقهم يحاولون الآن انتزاعها. لكنّهم واجهوا المشكلة نفسها في احتلالهم الثاني لبقية فلسطين، حيث لم يعد في وسعهم تكرار عمليات التهجير القسري فاستعاضوا عنها بسياساتٍ ذات صبغةٍ عنصرية واضحة، أساسها تطهيرٌ عرقيٌّ مخملي. وهو ما يعمل عليه الجيل الثاني من المستوطنين، مستوطني الضفة الغربية، عبر سياسات القضم وعزل الفلسطينيين في غيتوات وبانتوستانات تعيد إلى الذاكرة سياسات الأبارتيد في جنوب إفريقيا. أرادت إسرائيل فلسطين التاريخية كاملةً، من بحرها إلى نهرها. ومع تحقيقها ذلك، وجدت نفسها أمام معضلة وجودٍ آخر لا تستطيع إبعاده خارج حدودها ولا إفناءه، ومن هنا باعث إصرارها على هوية دولتها وهوية مواطنيها اليهودية. طالما لم يذهب الفلسطينيون إلى الجحيم، إذن ليعيشوا عذاباته حتى فنائهم أو هروبهم الطوعي، فالهوية الخالصة تستدعي معادلها الأسطوري، الصرح الديني المسمى القدس، الذي ينبغي أن يكون خالصاً أيضاً، يهودياً تاريخاً وجغرافيةً وثقافةً وبشراً. عاد الرهاب ليحكم مجدداً، وتولى إدارته وإشاعته بين المستوطنين كافةً مستوطنو العام 1967، الذين يرتكز جهدهم الأساسي الآن على مسح القدس (ومواقع أخرى لا تقل أهميةً) من الذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية والإسلامية والمسيحية وحتى الدولية، وشطبها من وقائع التاريخ الراهن. وطالما أنّ الجغرافيا البشرية هي التي تسم التاريخ بلونها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فالأمر اليومي لآلة الحرب الإسرائيلية وطبول البروباغندا المرافقة لها يضع هدفاً لها: رمي ما تبقى من فلسطينييالقدس (مسلميهم ومسيحييهم) خارج أسوارها وبعيداً من الجدار العازل الذي يحيط بمستوطناتها وتدمير ما يربطهم بها وإشادة المخيال الجمعي التوراتي / السياسي للقدس العبرانية على أنقاضه. لم يكن لمشروع دولةٍ «يهودية» و «ديموقراطية» معاً أن يكتمل من دون تحقيق المعادل الأسطوري للوعد التوراتي المزعوم بالاستحواذ الكامل على أورشليم الأنبياء والقضاة والملوك، وبضم «يهودا والسامرة» خاليتين من الغرباء إلى أرض الميعاد. لن تكون أرض الميعاد تلك حكراً على المكون اليهودي المصهور ببوتقة الأيديولوجيا الصهيونية إلا بوسيلةٍ عرّفها سفر... وفي وقتٍ مبكرٍ من تاريخ البشرية - التطهير العرقي - ما من تهويلٍ في كل ذلك، لنتذكر فقط أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي استلّ من نصوص العهد القديم أمثولة العماليق نموذجاً لألدّ أعداء «قبيلة إسرائيل» وألصقه بإيران ليكون مفوضاً بتنفيذ أمرٍ إلهي بإفنائها. على هذا النحو، ربما ستنجح إسرائيل اليوم في تحقيق ما فشلت فيه سابقاً، إثارة حربٍ دينيةٍ تؤمّن لها أفضل تغطيةٍ من الغرب بعد إغراقه مجدداً بذاكرة الهولوكوست وفزاعة حماية اليهود. فمأزق التسوية محكوم إلى حد كبير، بعيداً من مفاهيم المصالح والإرادات والتوازنات، بمنطق لا ينتمي إلى حقل السياسة بل إلى ذهانات الأرض المحروقة، نفي وجود البشر بإفناء تاريخهم. تسوية قوامها الأرض مقابل السلام لا صلة لها بتسوية جوهرها تفريغ الأرض، القدس والضفة الغربية والجليل الأعلى، من الفلسطينيين مقابل السلام. تمخّض إجماع العرب على الحرب يوماً عن كارثةٍ آلت بحصيلتها النهائية إلى إجماعهم اليوم على السلام، فهل نحن أمام مخاضٍ جديد؟