حتى الجوائز لا بد أن تذهب إلى المشرحة الاجتماعية، ومسطرة قياسها المزاجية قبل أن نُدْخِلَها حيز القناعة والاقتناع، ومن ثم فاصل الأحقية والاستحقاق. «عبده خال» روائي سعودي حصد جائزة «البوكر» العربية كأول مواطن من أهل هذه الأرض «ولاّدة المبدعين» وملهمة التفوق والنبوغ، و«البوكر» لمن لا يعرفها هي جائزة الآداب العربية التي تخضع لمعايير تقويم صارمة من أجل أن يكون «المُسْتَحِق مُسْتَحِقاً» بمعنى الكلمة. اعتاد جزء من قومي حين لا يعجبهم النجاح تهميش الشخص والمنجز وتقليص مساحتهما كونهما لا يتقاطعان مع الرغبات والأهواء أولا، ثمّ لأن القناعات الشخصية لا تزال تبنى بضبابية مهاجمة الأشخاص، لا شفافية الالتقاء بالفكر والأفكار، ونحن الذين لا نحب أن نقرأ ولا أن نجادل أو نواجه، بل نعشق النقد والهجوم وفق حمى التصنيفات المحلية، وهوس الانطلاق عبر رأي فلان الجاهل أو المتشدد عن فلان، وكأن الرأي في هذه الحال نص ثابت! والواقع يكشف أن كرهنا للآخر حتى وإن كان شريكنا في اللسان والدم والتراب يسير بالتبني أو عبر الوصاية على العقول. المؤلم حين يأتي ويسأل إنسان قائلاً: من عبده خال؟ وهو سؤال استفزازي يهدف إلى التهميش أكثر من رغبة البحث عن إجابة، «عبده خال» لمن لا يعرفه أيضاً، قروي من جازان - يكتب من جدة - بلسان البسطاء والمتعبين والمحرومين والمسحوقين والمهمشين وسكان الغرف المنزوية وزوايا الظلام والمبتسمين دائماً كل صباح حتى وهم لم يضمنوا بعد لقمة المساء، هوايته رمي حجار الكلمات في المياه الراكدة ليبعثرها ويحركها ويشغل المشاهد زمناً طويلاً بغية الاستيعاب. قرويّ أسمر رقيق المشاعر، لم أشاهده وجهاً لوجه وإنما قرأته حرفاً بحرف. حزنت عَلَى و«مِنَ» الذين يهمشون، وينتقدون، ويهمزون، ويلمزونه كرمز أدبي سعودي مذيبين منجزه، ووصفه بالعادي المحظوظ، على رغم أن هؤلاء الجهلة منهم من لا يعرف عنه شيئاً، وآخرون لم يحدث أن قرؤوا له سطراً واحداً. عُرِف قدر هذا الروائي خارج حدود البلد ولم يحركنا ذلك مطلقاً، بل لأنه لا يعجب بعضنا شكلاً ولا اسماً ومضموناً تفرغنا لانتقاد تكريمه، واعتبار الجائزة شخصية بحتة أكثر من كونها تمثل وطناً مليء بالمبدعين والمميزين وعبده أحدهم. زمن طويل ونحن نرفض كل شيء، نرفض حتى الثقافة ذاتها وأهلها من بعدها لإيماننا بثقافة الهامش والمثقفين التقليديين، وقد تختلف بعض الأصوات مع «عبده» لكن لتتفق معنا هذه المرة في أنه أنموذج ومبدع سعودي صامت أنصف أخيراً. أخشى حين طالب كثيرون بتفريغ هذا الروائي الجنوبي معلم المرحلة الابتدائية من عمله للكتابة والإبداع أن تجتهد لذلك الأصوات المعارضة له والمهشمة أو المهمشة لمنجزه ليس من أجله ولمصلحة حضور الوطن في كل محفل أدبي وتظاهرة ثقافية، بل من أجل ألا يؤثر في عقول النشء الذي هم بين يديه، وهو الذي - وللفخر - وقف أمامهم مذهلاً لطيفاً مبدعاً مجتهداً لسنوات تعليمية طويلة، من دون أن يخرج على يديه من نصفق بعده اليد على اليد. هذه الرموز يُراد لها أن تغيب وتظل في الظل ما أمكن الوقت، إنما ما يبهج أنه لا يوجد لدينا سوى «عبده خال» واحد، وربما لهذا السبب تسلم جائزته وجائزة وطنه وحيداً إلا من حب قراءه ومحبيه. [email protected]