إذا كان الباحثون في أعمال شكسبير يرون ان مسرحيته (الثانوية) «الملك جون» تكاد تكون من اكثر مسرحياته التاريخية امتلاء بالصراعات المجردة والصراعات بين القيم والخيانات وضروب الولاء، فإنهم يرون في الوقت نفسه ان الجمهور المشاهد هذه المسرحية هو الذي يشعر بضروب التمزق وذبذبة العواطف، اكثر مما يشعر بها شخوص المسرحية، الذين يقدمهم إلينا شكسبير على صورة حيوانات سياسية غارقة في الأفعال والصراعات، الى درجة لا يمكنها معها ان تتوقف لتتأمل احوالها، كما لا يمكنها ابداً ان تتردد طويلاً قبل ان تتخذ قراراتها. كما ان هذه القرارات تبدو على طول المسرحية وعرضها عبثية قاسية وغير ذات جدوى، ما يؤدي على الدوام الى حدوث سلسلة من الأحداث والخطوب التي تبدو متناسقة تماماً مع اسلوب شكسبير الصافي، حتى وإن لم يكن شكسبير من ابتكر تلك الأحداث: كل ما في الأمر انه وجدها في بطون كتب التاريخ فحولها الى عمل مسرحي، غير ان الغريب في الأمر هنا هو ان مشاهد هذه المسرحية، وعلى رغم كل المشاعر التي تنتابه والمواقف التي يدعى إليها، يبدو في نهاية الأمر، عاجزاً تماماً عن استخلاص اي درس. فإذا كانت اللاشرعية والظلم يؤديان الى شيوع الفوضى، من المؤكد ان تقويمهما بفعل القوة العسكرية والمؤامرات السياسية يزيد الفوضى فوضى. وهذا ما يبقي المتفرج في نهاية الأمر مرتبكاً، اذ يجد ان هذه النهاية لا تتلاءم ابداً مع ما كان يتطلع إليه. ومن هنا حين يتحدث الباحثون عن مسرحية «الملك جون» فإنهم غالباً ما يستخدمونها لدعم ذلك القول المأثور الذي يحاول ان يؤكد أن المسرح انما هو ضمير عالم لا ضمير له. غير ان قراءة هذه المسرحية لا تكمن هنا فقط. بل انها تنتمي الى مجموعة من اربع مسرحيات آثر كاتب انكلترا العظيم ان يكتبها شعراً كلها. وكذلك يجب ان نلاحظ ان «الملك جون» تخرج عن سياق تاريخي رسمه شكسبير لسلسلة مسرحياته التي تتناول فصولاً اكثر راهنية - بالنسبة الى زمنه - من تاريخ بلاده. إذ، حتى اذا كان من المتعارف عليه ان شكسبير كتب الملك جون بين 1596 و1597، أي في فترة كان بدأ يكتب بالفعل سلسلة المسرحيات التاريخية تلك، وربما مباشرة قبل رباعية «هنري السادس/ ريتشارد الثالث»، فإن الغرابة تكمن في انه عاد هنا نحو اربعة قرون الى الوراء ليروي فصلاً كاد يكون منسياً من تاريخ انكلترا، هو ذاك الذي شهد حكم الطاغية «الملك جون» (او «جان من دون ارض» كما يسميه الفرنسيون) والذي هو اخو الملك ريتشارد قلب الأسد. والمسرحية - كما يفعل التاريخ الإنكليزي نفسه - تقدم لنا جون ظالماً اغتصب العرش من دون وجه حق ومن دون ان يرفّ له جفن. الاسم الكامل لمسرحية «الملك جون» التي تخرج، كما اشرنا عن سياق التسلسل التاريخي للمسرحيات التاريخية التي كتبها شكسبير خلال تلك المرحلة الانعطافية من حياته، هو «حياة وموت الملك جون». وفي هذه المسرحية الشعرية التي تتوزع على خمسة فصول يكتفي شكسبير، من ناحية مبدئية، باقتباس مسرحية قديمة حول هذا الموضوع نفسه كانت نشرت في جزأين في عام 1591. غير ان عبقرية شكسبير لم تكتفِ بالاقتباس، بل انها آثرت ان تبرز بكل وضوح من خلال التعديلات الخلاقة التي ادخلها، صاحب «هاملت» و «ماكبث» على النص التاريخي الذي يتابع حياة ذلك الطاغية الإنكليزي، الذي سيقول كثر انه كان «استثناء» في تاريخ ملوك انكلترا. واللافت هنا هو ان شكسبير، اذ انكب تماماً في هذه المسرحية على تتبع احداث حياة الملك والصراعات التي تدور من حوله، صرف نظره عن الكثير من الأحداث التاريخية، الشديدة الأهمية، التي طرأت خلال حكم الملك جون. في المقابل تركز المسرحية على مسألة استبعاد الأمير الشاب آرثر، ابن ريتشارد قلب الأسد، من الحكم، وهو في الوقت نفسه ابن اخ جون. ومنذ البداية يطالعنا في المسرحية جون وهو يحث هيوبرت دوبورغ على إبعاد آرثر من الحكم بحجة ان آرثر يحاول ان يفسد عليه مشاريعه للسيطرة على المملكة. ويستثار هيوبرت ويحاول التخلص من آرثر بفقء عينيه، لكن آرثر يتمكن من استثارة عطف هيوبرت، الذي يبدو لنا منذ البداية ذا شخصية متقلبة خاضعة للتأثير. غير أنه حتى إذا كان هيوبرت رحم الشاب آرثر، فإن هذا الأخير سرعان ما يقتل فيما كان يحاول الهرب قافزاً من فوق سور القصر. وإذ يموت الأمير الشاب لا يبقى لأمه كونستانس سوى حزنها العميق. اما الملك جون فإنه يتوجه الى دير سوينستيد مبدياً تصرفات ومصدراً اوامر ونواه تكشف ما في شخصيته من قذارة وخبث. ولكن في مقابل قذارة جون وخبثه يضعنا شكسبير في المسرحية على تماس مباشر مع شخصية اخرى، هي شخصية فيليب فولكنبردج، الذي يمضي هو الآخر وقته وهو يرسم المؤامرات بدهاء شديد كاشفاً عن مطامع تبدو من دون حدود. وهذه السمات نفسها نلحظها على اية حال لدى شخصيات المسرحية كلها. وتقول لنا المسرحية في سياق الأحداث والحوارات كيف ان معظم تلك الشخصيات لا يتوقف عن اللجوء الى فرنسا، طمعاً بحماية ملكها لها وتحالفه معها. والواقع ان ملك فرنسا - على رغم ان الملك جون كان تحالف مع روما من طريق اعترافه بالكاردينال باندالف، ممثل الكنيسة الكاثوليكية - لا يبدو آبهاً بهذا التحالف، ذلك ان النزعة السياسية لديه هنا تغلب النزعة الدينية، وما بات يهمه انما هو السيطرة على انكلترا من طريق المجيء بملك يكون تحت سيطرته. وهكذا يعلن ملك فرنسا الحرب على بريطانيا، لكن الملك جون لا يعيش حتى يشهد ما ستؤول إليه تلك الحرب، ذلك انه سرعان ما يموت مسموماً بعدما دس له السم احد الرهبان في الدير. وإذ يموت الملك جون، تزول اسباب الحرب بين فرنسا وبريطانيا، وتتصالح الدولتان. اما العرش فيكون من نصيب الأمير هنري، ابن الملك جون، الذي ينال حتى اعتراف فولكنبردج الذي كان قبل ذلك سعى للوصول الى العرش من طريق دفع البرلمان الى الإقرار بأنه ابن غير شرعي لريتشارد قلب الأسد .اما المسرحية كلها فتنتهي على صراخ شاعري وشعائري يقول: «إذا كان الملوك يجيئون ويذهبون فإن انكلترا باقية الى الأبد». مهما يكن من أمر، يبدو أن هذا الشعار الذي به تختتم المسرحية، كان هو ما رمى شكسبير الى الوصول الى قوله في زمن كان يبدو، بحسب سيرته، انه يخوض في السياسة مغامراً، لحساب راعيه اللورد ساوثامبتون، ويبدو أن ما لم يجد من المناسب قوله، وهو يتحدث عن تاريخ انكلترا القريب من عصره، بسبب الحساسيات المؤكدة، قاله اذ عاد كل تلك المئات من السنين الى الوراء. وما لم يرد قوله نثراً، قاله شعراً. ومن الواضح ان الرسالة قد وصلت. وشكسبير يوم كتب «الملك جون» كان تجاوز الثلاثين من عمره وكان عرف كل ضروب النجاح، وصار معلماً من معالم الحياة اللندنية، وكان بدأ قبل سنوات كتابة تلك السلسلة من المسرحيات التاريخية، التي كان من الواضح انها ليست تاريخية تماماً، بل هي اعمال سياسية شاء شكسبير من خلالها ان يدلي بدلوه في السجالات السياسية التي كانت قائمة. وهي امور كلفته كثيراً، لكن ذلك لم يثبط عزيمته. وشكسبير الذي ولد عام 1564 ورحل 1616، لم يكن على اية حال من الذين تثبط السجالات أو الرقابات عزائمهم. ومن هنا نجده يقول دائماً ما يريد، ويجد دائماً خير الأساليب لقول ما يريد، وهو في «الملك جون» قال ما يريد قوله، عبر استخدامه الأمثل للتاريخ القديم. [email protected]