في الأيام الماضية زار صديقان لي، كل على حدة، فنلندا وإسبانيا، أحدهما للسياحة والآخر لدورة تدريبية. عندما عادا أخذ كل منهما يصف الأحوال هناك. اتفق الاثنان على أمرين، الأول هو الانبهار الشديد بالتقدم الذي وصل إليه الإنسان هناك. والثاني لماذا لم نستطع الوصول إلى هذا التقدم؟ لا يشك أحد بأنه إذا أردنا الوصول إلى ما وصل إليه هؤلاء القوم فلا بد من التغيير. التغيير على كل الأصعدة، سواء كان هذا التغيير جزئياً في البداية أو كلياً في النهاية. الجدل القائم حول التغيير عادة ما يدور في محور أساسي كان دائماً مثار نقاش. هل يبدأ التغيير من القاعدة أم من النخبة؟ في أيار (مايو) 1998 اجتاحت اندونيسيا احتجاجات عارمة، الطلاب أبدوا امتعاضهم من الإجراءات التقشفية التي اتبعها الرئيس سوهارتو للخروج بالبلاد من الأزمة المالية. نتيجة لذلك أذعن الرئيس لمطلب المحتجين وتنحى بعد فترة حكم زادت عن الثلاثين سنة. الرئيس سوهارتو رجل بنى اندونيسيا الحديثة، حيث جعل منها أحد أبرز النمور الآسيوية. لكن سوهارتو استبد بالحكم، وحينما حلت الأزمة المالية وبدأت الأوضاع تسوء، تأكد في أذهان المواطنين هناك أن وقت التغيير قد حان، وأنه لا فرصة للحلول الوسط والإجراءات المجتزأة. باختصار لا بد من رحيل سوهارتو. في العادة لا تنزع النخبة إلى التغيير وتخضع له إلا لأحد سببين، الأول مصلحة ما، سواء كانت في نطاق المنفعة الشخصية او حتى جراء وعي بأن هذا التغيير هو للمصلحة العامة. أما السبب الثاني: فهو نتيجة ضغط يمارسه من في القاعدة. ترى، هل سيقدم رئيس تنفيذي لشركة ما على زيادة رواتب موظفيه، إذا لم يكن ذلك مكافأة على أرباح الشركة أو لأن ضغطاً من قبل الموظفين الذين كانوا قد هددوه بالإضراب إذا لم ينالوا هذه الزيادة. إن البسطاء الذين يعيشون الهم اليومي هم أول من يشعر بضرورة التغيير. فإذا ما رسخ في الذهن عدم الرضى بالوضع الحالي، اتجهت القاعدة على شكل فرادى في البداية ومن ثم بشكل منظم لتمارس ضغوطاً على النخبة بكل الأشكال والوسائل. هذا الضغط لا يكون بالضرورة احتجاجات أو حتى عنيفاً، فالعمل الإيجابي واتقان العمل والإخلاص الحقيقي للأمة وأخذ زمام المبادرة، كل هذه وسائل تشكل ضغطاً يزداد مع ازدياد منفذيه ويتطور ويتشكل مع الزمن ليثمر في النهاية تغييراً جذرياً في شكل الأمة، ليقود بالتالي إلى تبدل الحال أياً كان شكل الوضع الجديد. على من يسعى إلى التغيير أن يضع في باله نقطة مهمة. قد يلجأ من في القمة نتيجة الإحساس بالضغط إلى التغيير الجزئي الصغير، هم يريدون بذلك تخفيف الضغوطات التي يتعرضون لها ومحاولة كسب بعض الوقت وإضعاف جبهة التغيير. عملية التغيير عملية مستمرة وتراكمية و تحتاج إلى نفس طويل وتتطلب الإعراض عن النتائج الصغيرة طالما أن الهدف الرئيسي ما زال بعيداً. في الآونة الأخيرة ازدادت الدعوات الرامية الى زيادة المحتوى العربي على الإنترنت، حيث يصل المحتوى العربي الحالي إلى نسبة 1 في المئة من مجموع المحتوى العام على الشبكة. هذه النسبة لا تليق أبدا بأمة تملك من الإمكانيات ما تملك. قبل أشهر، استحوذت شركة «ياهو» على موقع مكتوب. التقارير المتلاحقة بعد عملية الاستحواذ أكدت أن خدمات «ياهو» سينالها التعريب وأن كماً هائلاً من المحتوى العربي سيضخ في الشبكة العالمية. هذا فضلا، عن الإعلانات والرعاة من كافة أنحاء العالم الذين سينشرون باللغة العربية. ربما لو لم يتحرك سميح طوقان وشركاه قبل ما يزيد عن عشر سنين بهذه الخطوة - انشاء مكتوب - لما قام «ياهو» بعملية الاستحواذ، ولما كان هذا التوقع لنمو محتوى اللغة العربية نتيجة دخول العملاق ياهو على الخط. في الخلاصة، التغيير يبدأ من القاعدة، وينجز ويتحقق بواسطة النخبة.