لم تكن الزيارة السريعة لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الى بيروت مجرد صدفة خارج السياق، بل حملت في الشكل والمضمون رسائل عدة الى اللبنانيين والى الحوار المعني بلبنان بدءاً من طهران وصولاً الى دمشق وتل أبيب، في نطاق حركة أميركية تجاه المنطقة بدأت مع جورج ميتشل وجون كيري. في الشكل جاء اقتصار برنامج الزيارة على لقاء الوزيرة الأميركية رئيس الجمهورية ميشال سليمان بمثابة دعم مباشر لسياسة الرئيس ونهجه في إدارة شؤون البلاد منذ انتخابه رئيساً، وهو النهج الذي تحكمه مبادئ الالتزام بالدستور والميثاق الوطني وإعادة الحياة الى المؤسسات عبر ممارسة سياسية تقوم على الاعتدال. وهذا الاعتدال هو المضمون الذي حملته تصريحات كلينتون الى حد اعتباره شعاراً مطلوباً للانتخابات النيابية المقبلة، متمسكة في الوقت نفسه بالموقف الأميركي المعلن في دعم سيادة لبنان واستقلاله المعبّر عنه في منطلقات «ثورة الأرز» التي تبنتها الإدارة الأميركية السابقة وتواصل الإدارة الحالية تبنيها. وإذا كان شيء لم يتغيّر في الموقف الأميركي من لبنان فما الجديد إذاً؟ وهل أن كلينتون هي نسخة عن كوندوليزا رايس؟ وهل إدارة الرئيس باراك أوباما هي نسخة عن ادارة الرئيس جورج بوش؟ ليست الأمور، طبعاً، في هذه البساطة، وإذا كان صحيحاً ان الوزيرة الأميركية كررت ثوابت بلادها المعروفة في شأن لبنان، وهذا مهم جداً في معنى الاحتضان الدولي لسيادة هذا البلد واستقلاله، فإن ما ينبغي تسجيله، وهو ما يشكل فرقاً جوهرياً بين سياستي الإدارتين الأميركيتين السابقة والحالية، هو ان إدارة بوش كانت توظف موقفها اللبناني في سياق صدامها مع النظامين في دمشقوطهران. وعلى رغم إعلانها عن عدم إخضاع دعمها للبنان لمساومات محتملة مع هذين النظامين، فانها لم تنكر أنها تسعى عبر لبنان، وحتى عبر الحرب الإسرائيلية في تموز (يوليو) 2006، الى بناء «شرق أوسط جديد»، ما يعني استعمالاً للساحة اللبنانية في المواجهة الأميركية العامة في المنطقة، أما كلينتون فإنها كررت الثوابت الأميركية في ظروف مختلفة تماماً، وإن كانت معالمها لم تتبلور بعد. فالثبات في دعم لبنان يتم في وقت تفتح واشنطن أبواب الحوار مع إيران وسورية، لذلك فإن تجديد الإعلان عن عدم ربط هذا الدعم بأي صفقات يمكن أن يتم التوصل اليها اقليمياً، يكتسب لبنانياً قيمة تفوق في أهميتها وجدواها، مواقف مماثلة في سياق المسلك التصادمي الذي سلكته الإدارة السابقة، باعتبار أن ما تقوله واشنطن اليوم عن الداخل اللبناني، يفتح أمام قواه السياسية إمكانية نقاش متحرر نسبياً من الاستقطابات الإقليمية التي طبعت الى الآن الواقع السائد. وعلى عكس ما تسرع البعض في لبنان، حزب الله خصوصاً، فإن الموقف الأميركي، ضمن إطاره الإقليمي الجديد، ليس تصادمياً كما في أشكاله السابقة، بل يتيح فرصاً جديدة للتعاون مع قوى تعتبرها واشنطن معادية ومنها «حزب الله» و «حماس». كان لبنان حقلاً خصباً لتجربة الإدارة الأميركية في علاقاتها مع ما تسميه «التنظيمات الإرهابية»، فهذه الإدارة التي تصنف «حزب الله» مثلاً في خانة الإرهاب لم تقاطع حكومة لبنانية يشارك فيها، وهي لا تستبعد (وان كانت لا تتمنى) أن يحظى الحزب بغالبية يوفرها له حلفاؤه في «التيار الوطني الحر» في المجلس النيابي المقبل، وتستعد لمثل هذا الاحتمال في إطار أشمل، من علاقات مقترحة مع المنطقة، قوامها الحوار المباشر مع سورية وإيران، وعدم الممانعة في قيام أوروبيين بفتح خطوط تواصل مع «حزب الله» و«حماس» وغيرهما من تنظيمات «محور الشر» السابق. وعلى رغم الالتباس في الموقف الأميركي الرسمي من قرار بريطانيا بدء اتصالات على مستوى غير رفيع مع «حزب الله»، فإن الخارجية الأميركية أقرت بإبلاغ مسؤولين أميركيين القرار البريطاني مسبقاً، وأوضح وزير الخارجية ديفيد ميليباند في 6 آذار (مارس) الماضي ان حكومته سمحت باتصال مع «الجناح السياسي» ل «حزب الله» للتأكيد على ضرورة نزع سلاح الميليشيات في لبنان بموجب القرار 1701. وتعليقاً على كلام الوزير البريطاني أوضح مسؤول أميركي: «يمكنني القول انه تم الإبلاغ، لكن عبر الإدارة السابقة». وقال الناطق باسم الخارجية الأميركية غوردف دوغيد «نحن غير مستعدين للقيام بالخطوة ذاتها»... ومع ذلك صرّح مسؤول آخر ان «واشنطن ترى فوائد محتملة في القرار البريطاني». هذا «التحول» في خصوص الموقف من الحوار مع «حزب الله»، أعقبه «تحول» ولو خجول في ما يخصّ حركة «حماس» عندما طلبت إدارة أوباما قبل أيام من الكونغرس ان يسمح بمواصلة تقديم المساعدة للفلسطينيين وإن انضم مسؤولون مرتبطون بالحركة الى الحكومة الفلسطينية. ومن المعروف أنه بموجب القانون الأميركي الحالي فإن أي مساعدة أميركية تتطلب أن تعترف الحكومة الفلسطينية بإسرائيل وأن تنبذ العنف وتعترف بالاتفاقات الموقعة سابقاً بين اسرائيل والفلسطينيين. انها إشارات تحتاج الى وقت لبلورتها، لكنها لا تأتي من فراغ، فآذار (مارس) الماضي كان شهر إعلان التوجهات الجديدة لإدارة أوباما في مواضيع عدة، بدءاً من أفغانستان وباكستان مروراً بإيران وصولاً الى الشرق الأوسط والصراع العربي – الإسرائيلي، وخصصت الإدارة مبعوثاً الى المنطقة هو جورج ميتشل كما أوفدت رئيس لجنة العلاقات الخارجية السناتور جون كيري في جولة واسعة نهاية ذلك الشهر وضع في اختتامها خلاصات ستستفيد منها هيلاري كلينتون (التي كان كيري يأمل بأن يكون مكانها في منصب الوزير). وعرض كيري تلك الخلاصات في محاضرة ألقاها في مؤسسة «بروكينفز» (نهاية آذار) في عنوان «استعادة الدور القيادي في الشرق الأوسط: مدخل اقليمي الى السلام» مبدياً قناعته بوجود فرصة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط نتيجة لأربعة أسباب هي: تصاعد النفوذ الإيراني وإمكانية البناء على مبادرة السلام العربية ووجود اتفاق حول الصيغة النهائية للتسوية وانتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة. واعتبر كيري أن تصاعد النفوذ الإيراني وصل الى حد اقتناع الدول العربية بعمل مشترك مع اسرائيل لتحقيق السلام، مشيراً الى الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه العلاقات مع سورية في الضغط على ايران. ورأى انه في مصلحة الولاياتالمتحدة والمنطقة وسورية أن يتوجه الرئيس بشار الأسد غرباً للبحث عن علاقات جديدة بعيداً من طهران. ويؤكد كيري الذي شملت جولته دمشق ان سورية اتخذت بالفعل خطوات في هذا الاتجاه، وأجرت منذ العام الماضي مفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل بوساطة تركيا على رغم اعتراض ايران، ويقول بضرورة استجابة الولاياتالمتحدة المطلب السوري بلعب دور في هذه المفاوضات والتأكيد ان تقدم المفاوضات السورية – الإسرائيلية لن يؤثر سلباً على لبنان أو على اعتبارات العدالة الدولية (المحكمة). كيري، مع ذلك، دعم جهود أوباما في فتح باب الحوار المباشر مع ايران، لكنه رأى ضرورة عدم استبعاد الخيار المسلح، مع الالتزام بدايةً بالخيار الديبلوماسي وضرورة العمل على ضم روسيا والصين في جهد مشترك ضاغط... كانت تلك خلفيات (إقليمية لبنانية) لتصريح كلينتون في بيروت، لم تصرح بذلك مباشرة، لكن ما وصل الى السامعين يفترض أن يكون كافياً لفهم الظروف التي ستجرى فيها انتخابات لبنان والموقع اللاحق لهذا البلد في ضوء نتائجها. * من أسرة «الحياة».