يقدم التقرير الصادر عن «البرنامج الانمائي للأمم المتحدة» بعنوان «نحو نهوض المرأة في الوطن العربي»، صورة لواقع المرأة العربية في العقد الأول من القرن العشرين، تكاد في حقيقتها تعود لعقود من الزمن، إن لم نقل لقرون. يكشف التقرير بمنتهى الوضوح حجم التمييز الذي لا تزال المرأة تعاني آثاره في جميع المجالات من دون استثناء، ويمر على حجم المشاركة السياسية التي يصفها التقرير بانها لم تكن أكثر من «خطوة تجميلية»، ويعرج على العنف الممارس ضد المرأة والأشكال التي يتخذها، ويتطرق الى دور التنظيمات الأصولية التي تنشر فكراً يتعارض في جوانب كثيرة مع مساواة الرجل بالمرأة... وصولاً الى إعلان التقرير انه، وعلى رغم توقيع 17 دولة عربية على «اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء»، إلا أن غالبية هذه الدول وضعت تحفظات شديدة على هذه المصادقة، الأمر الذي جعل الموافقة على الاتفاقية فاقدة المعنى. يقترن التمييز ضد المرأة اقتراناً وثيقاً بالعنف الممارس ضدها، سواء في أشكاله المادية أو المعنوية أو الرمزية، ويتغذى الاثنان من جملة عوامل تتضافر لتبقي المرأة العربية في «موقع الدونية». أول الأشكال في التمييز تتصل بقوانين الأحوال الشخصية التي تضع قوانين وتشريعات تمنع عن المرأة التمتع بالحقوق التي ينالها الرجل، بل وتميز في شكل فاقع بين حقوق كل منهما، ولمصلحة الرجل بالطبع. وإذا كانت المعركة القانونية لتعديل قوانين الأحوال الشخصية قد حققت حداً من التقدم لتخفيف التمييز ضد المرأة وباتجاه المساواة مع الرجل، لكن هذا التعديل يصطدم دوماً «بثقافة قانونية أو وعي قانوني لدى القانونيين العرب يعارض صراحة أو ضمناً مبدأ المساواة» على ما يشير تقرير الأممالمتحدة. لا تقتصر قضية المرأة العربية على نقص في النصوص القانونية ضدها، كما لا يكمن الحل لمشكلتها فقط في تعديل القوانين، على أهمية هذا التعديل وضرورته. المشكلة تكمن في البنى الاجتماعية السائدة والثقافة التي تتغذى منها، وكيفية ترجمتها قوانين فعلية ضد المرأة. تقع المرأة العربية تحت رحمة الأعراف والتقاليد السائدة التي تحمل مفاهيم و «قيماً» ترى بموجبها أن موقع المرأة في المنزل ومخصص للزواج، وأن قيوداً واجبة فرضها عليها في حياتها الشخصية والاجتماعية، ومنعها من تولي بعض الوظائف، والحد من متابعة تعليمها في أكثر من مجتمع عربي، وأن منطق الخضوع للزوج هو القانون الأعلى الذي يجب أن يسود... تعزز هذه التصورات فتاوى تؤكد هذا التمييز، استناداً الى الأعراف والتقاليد السائدة منذ قرون، وإضفاء صفة «الأبدية» على هذه المفاهيم، وتقديمها في صورة تسبغ عليها شيء من القدسية بما يمنع المس بها أو تعديلها. لا يتورع أصحاب الفتاوى عن تأويلات لبعض النصوص الدينية بما يسمح لهم بتسييج الفتوى بقوة مثلثة، قانونية واجتماعية ودينية. تكمن المشكلة هنا في رفض الاعتراف بتغير الزمن وتبدل الأوضاع، وتغير موقع الرجل والمرأة في كل ميادين الحياة، فالإصرار على ديمومة القوانين والأعراف والتقاليد و «قدسيتها» وتقديمها حقائق ثابتة، تشكل مصدراً لتبرير العنف لمن يخالفها، وحاجزاً يمنع من تعديل موروثات تجاوزها الزمن ولم تعد ذات صلة بالعصر الراهن. على رغم النضال الشاق الذي تقوده المرأة العربية ضد العنف الممارس ضدها، وعلى رغم التقدم الملحوظ الذي تحقق في أكثر من بلد، إلا أن التقارير والأخبار تزخر كل يوم بأشكال متعددة من العنف الذي يطاولها، وعلى الأخص العنف الأسري، الذي يجد من يفتي بحق الرجل في ممارسته. يشكل هذا العنف أقسى الأنواع، بالنظر الى أثره السلبي على الأسرة وتكون العائلة والعلاقات السائدة داخلها، مع الإشارة الى أن ما يجري الإعلان عنه يبقى قليلاً جداً من الوقائع الجاري ممارستها داخل الأسرة. النوع الآخر من العنف هو العنف الاجتماعي الناجم عن المسموح به للمرأة من حقوق وغير المسموح وفق ما تكون الأعراف قد فرضته على المرأة، وهو أمر يصعب إزالته بقوانين وتشريعات، بمقدار ما يحتاج الى تطور ثقافي واجتماعي واقتصادي، ومشاركة للمرأة في كل الميادين، وهو أمر يتصل وثيقاً بالخروج من التخلف المتعدد الأوجه الذي تقبع المجتمعات العربية داخله. وهناك العنف السياسي ضد المرأة والمتمثل، في أكثر من بلد عربي من حرمانها من الكثير من حقوقها السياسية والمدنية، بما يمنع عليها من المشاركة في مسار الحياة السياسية للبلد. على رغم وصول بعض النسوة الى مراكز في السلطة، إلا أن فاعليتها لا تتناسب مع المواقع المعطاة لها. في مراحل نهوض مشروع الدولة العربية بعد الاستقلالات، كان هدف تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة واحداً من الآمال المشروعة التي يمكن تحقيقها، وقد جرت بالفعل خطوات جدية على هذا الصعيد. لكن المسار الذي تسير فيه المجتمعات العربية اليوم، وتفككك البنى فيها لمصلحة انبعاث العصبيات، هذا المسار ينعكس في شكل سلبي على موقع المرأة، خصوصاً أن هذا الأمر يترافق مع صعود الأصوليات والحركات المتطرفة، التي تقدم طروحات حول المرأة تعيدها الى القرون الوسطى، وتسلبها ما حققته حتى الآن من حقوق. في مجتمعات عربية تطغى عليها «الذكورية»، يحتل النضال من أجل تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الميادين، موقعاً مركزياً وشرطاً ضرورياً لتقدم هذه المجتمعات وبناء مقومات تطورها. تمثل المرأة نصف المجتمع، فكيف يعقل تحقيق تنمية وتطوير هذا المجتمع في غياب ومشاركة نصف أعضائه؟ في الآن نفسه، وعلى أهمية النضالات التي تخوضها المرأة لتأمين هذه المساواة، إلا أن الموضوع يتصل بالرجل لكونه المعني الأول، ولكون حصول المرأة على حقوقها ليس «حسنة ومنّة» تعطى لها، فهذا حق لها ويمثل جزءاً من كينونتها. وإذا كانت المجتمعات العربية تكافح اليوم لتحقيق مجتمعات عادلة ومتقدمة مناهضة لسلطات الاستبداد، فان النضال لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل ومنع التمييز عنها، يقع في صميم النضال الديموقراطي التي تسعى هذه المجتمعات الوصول الى تحقيقه. * كاتب لبناني.