تستحق رحلة «المسجد الأصفر» الى القطب الشمالي التوثيق، ليس لأنها الأولى من نوعها في العالم فحسب، بل لكونها تعكس وضعاً إنسانياً يندر وجوده اليوم في العالم الغربي، ومن هنا جاءت أهمية الوثائقي التلفزيوني الكندي الذي رافق مسيرة المسجد عبر الأراضي الكندية حتى وصوله الى منطقة «أينوفيك» القطبية، حيث استقر به المقام هناك. بدأ الحدث قبل سنوات، حين قررت مجموعة من المسلمين المقيمين في الأقسام القطبية من كندا، بناء مسجد جديد بدلاً من مسجدهم الصغير الأول، الذي لم يعد يتّسع لهم بعد ازدياد عددهم وتنوّع نشاطاتهم الاجتماعية والدينية. قبل الشروع في مرافقة «المسجد الأصفر» في رحلته الطويلة والتي بلغت نحو خمسة آلاف كيلومتر، يسجل الوثائقي التلفزيوني طبيعة العلاقات الاجتماعية في المنطقة التي يسكنها الهنود الأصليون من قبائل الأنوفكين. جاء المسلمون في السنوات الماضية، الى الكنديين المسيحيين وأقاموا بينهم، إضافة الى مجاميع صغيرة أخرى. واللافت، أن سكان المنطقة التي تراد إقامة المسجد فوقها، يعيشون في جو يسوده السلام ويحترمون ثقافة وديانات بعضهم بعضاً. في قداس للمسيحيين، تقابل المخرجة شين بارنتو راهباً كان يُعير كنيسته في أيام الأعياد الى المسلمين، ولهذا كان شديد الحماسة للمشروع، وأقرّ بحق المسلمين في الحصول على مسجد أكبر لهم. ضيق اليد دفع المسلمين ورئيس جمعيتهم الى التفكير في مشروع نقل المسجد من منطقة بعيدة كحلّ للمشكلة. فما جمعوه من مال لا يكفي لبناء مسجد جديد، لكن يسمح بتركيب مسجد جاهز بسعر أرخص في منطقة كندية بعيدة تشتهر بالبناء الجاهز، ثم يتم نقله من هناك الى مدينتهم. يشارك في الوثائقي، صحافي عمل على نقل أخبار المسجد ورافقت كاميرته عدداً من الطلاب المسلمين في مدارسهم، وسجلت علاقات بعض من العمال وسائقي سيارات الأجرة بأبناء المنطقة الأصليين. المرافقة قدمت حالة اجتماعية قلّ مثيلها في العالم، ويعود السبب الى طبيعة الناس وابتعادهم من العنصرية. فالهنود الحمر يقرون بحق كل إنسان في ممارسة شعائره، والثقافة الكندية في المناطق القطبية تختلف بعض الشيء عن المناطق الحضرية الأكثر كثافة. ولكي يعطي صورة موضوعية عن الواقع، سجّل الصحافي ردود أفعال الكنديين على فكرة المشروع، فظهرت أفكار غير مرحّبة فيما الغالبية أقرت بحقّهم في بناء جامع يمارسون فيه شعائرهم الدينية. في المقابل، يظهر المسلمون كقوة بشرية إيجابية على قلة عددهم، متفاعلة وناشطة في المجتمع، لأنهم في غالبيتهم يعملون ويساعدون جيرانهم وتسود بينهم مودة انعكست على المجتمع في شكل عام، ولهذا رحّب الناس بالمسجد بعدما قطع مسافة طويلة كانت كاميرا البرنامج تسجّلها وتسجّل الصعاب التي مرت بها، فتحوّل الى «وثائقي طريق» يجمع بين متعة المغامرة والعرض المشوّق لردود أفعال الناس خلال الرحلة. عند وصوله بعد مسيرة شهر كامل قطع فيها أنهاراً شديدة التيارات وطرقاً ضيقة وعبر مضائق مائية خطيرة، برزت مشكلات لوجستية وفنية عند محاولة تثبيته، ثم ظهر وسط الأراضي المتجمدة مسجد أصفر اللون يعلو مئذنته هلال صغير يرمز الى الديانة الإسلامية، وفي جواره كنيسة وقبالته موقع يمارس فيه الهنود الحمر طقوسهم. تجسد انسجام المسجد مع بيئته الباردة في شكل أكبر لحظة افتتاحه. فحرص مسؤولو الولاية على افتتاحه، بينما قام عدد كبير من الصحافيين بتغطية حدث نادر في تاريخ كندا. فللمرة الأولى، يدخل في سجّلها أن مسجداً قطع رحلة طويلة من مدينة «فانكوفر» عبر «وينسينغ» حتى وصوله الى «أينوفيك»، واستُقبل بترحيب كبير من سكانها الذين اعتبروه جزءاً من ثقافتهم الإنسانية المتنوّعة والمتسامحة.