يجب أن نقرر ابتداء أن اتجاه الرأي في الدوائر الغربية وفي الحكومة الأفغانية إلى اختيار السعودية وسيطاً في المشكلة الأفغانية هو اختيار موفق، لأن السعودية تتمتع بالكثير من الأوراق الإسلامية والعربية والاقتصادية والمعنوية التي تتجاوز موقعها كدولة عربية، ولذلك فإن عدداً كبيراً من المحافل الدولية لا يمكنه أن يتجاهل أوراق المملكة. ولسنا بحاجة إلى إيراد الأمثلة التي تبلغ العشرات في الإطار العربي والإسلامي والدولي، وكلها تقطع بأن السعودية قوة إقليمية لها نفوذ عالمي. وعندما اتجه مؤتمر لندن في الأسبوع الثالث من كانون الثاني (يناير) 2009 إلى التأكيد على ما كان يتردد منذ أكثر من عام من ضرورة إسناد دور الوسيط للمملكة، فقد لاحظنا أن هذا الاختيار ارتبط بشكل مباشر بتقارير القيادات الميدانية العسكرية لحلف الأطلسي في أفغانستان بأن الحل العسكري لم يعد وحده كافياً. ويهمنا في هذه المقالة أن نحدد القضايا الشائكة التي يتعين على أي وسيط أن يتدبرها جيداً وأن يحدد في ضوئها نطاق حركته، وذلك من خلال القراءات المتباينة للموقف في أفغانستان. ولا شك أن القراءات كافة لا بد من أن تواجه القضية المركزية وهي تحديد طبيعة الصراع في أفغانستان، وطبيعة المهمة المطلوبة للوساطة. لا شك في أن النظرة الى طبيعة الصراع في أفغانستان تختلف وفقاً للمكان الذي ننظر منه. ويترتب على ذلك أن النظرة الأميركية والغربية عموماً ستختلف بالضرورة عن النظرة السعودية، ولذلك لا بد للوسيط أن يتأكد من نقطة مهمة في البداية وهي هل مجرد اختياره دليل ثقة وعنوان مكانة وكفى، أم أن هذا الاختيار قصد به أن يقوم الوسيط بوظيفة محددة في سياق الاستراتيجية الغربية في أفغانستان، وأن يكون مقابل هذا الدور هو درجة الاعتبار التي يحصل عليها الوسيط عند القوى الغربية. من ناحية أخرى، فإن الوسيط يجب أن يجري قراءة خاصة به للحالة الأفغانية، ومعنى ذلك أنه ستكون لدينا ثلاث قراءات: قراءة غربية، بدأت تشكك في جدوى الكلفة المادية والبشرية للوجود العسكري الغربي في أفغانستان، على أساس أنه لا يمكن لعاقل أن يصدق أن الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة قام بغزو أفغانستان وإسقاط نظام «طالبان»، لمجرد اعتراف اسامة ابن لادن بأنه صاحب «غزوة نيويورك» وأن «طالبان» رفضت تسليمه. معنى ذلك أنه إذا كان الغزو ومئات الآلاف من الضحايا الأفغان وكل هذا الدمار وتسع سنوات من الاحتلال والمحاولات اليائسة لإيجاد نظام بعملية جراحية في هذه المنطقة، فإن الفشل في القبض على بن لادن والملا عمر يعني ببساطة فشل الحملة وهو أمر لا يصدقه حتى البلهاء. يترتب على ذلك أن الغزو كانت له أهداف استراتيجية أوسع، ولكن أفغانستان هي المسرح، وعلى المسرح نفسه عادت «طالبان» بقوة فأصبحت المعركة في أفغانستان، ولكن الأهداف في ما جاورها من بلدان، وهو أمر لا بد أن يحدد من الذي يساند «طالبان» حتى تقوى على منازلة الغرب بكل أسلحته وعدد جنوده الذي يزيد على 170 ألفاً من أكثر من ثلاثين حليفاً، ما يجعل الانكسار الغربي في أفغانستان انكساراً لموجة جديدة من حماقات الغرب. القراءة الثانية هي بشأن ماذا يفعل الوسيط في أفغانستان على وجه التحديد، وما هي أطراف الصراع. وحتى لو افترضنا أن «طالبان» تقبل الوسيط فإنها لا تقبل الوساطة من حيث المبدأ، ولكن إذا قبلت الوسيط مجاملة فإن موقفها المعلن هو عدم الحوار مع الرئيس كارزاي ومن نصبه، أي أن «طالبان» تشعر بأن الإلحاح على الوساطة هو مؤشر على ضعف الطرف الآخر ويأسه عسكرياً، ولذلك فإن الرسالة وصلت إلى «طالبان» قبل أن يصلها الوسيط. ولذلك فإن الوسيط- لكي ينجح في وقف القتال- لابد أن يمد بصره إلى ما بعد وقف القتال، لأن الصراع في واقع الأمر في نظر «طالبان» يتناقض عنه في نظر واشنطن، لأن الأخيرة ترى في الأولى نظاماً متمرداً يدعم الإرهاب، ضد نظام شرعي تسانده قوات حليفة تريد الخير للشعب الأفغاني، على رغم أن قسماً كبيراً من الشعب الأفغاني يساند «طالبان» كحركة تحرر وطني ضد الاحتلال، بحيث أصبح كارزاي رمزاً من رموز التبعية يستمد شرعيته من احتلال مرفوض، على عكس حكومات المنفى التي سعت إلى تخليص الشعوب من الاحتلال. ولذلك فإن واشنطن تريد للوسيط أن يقنع «طالبان» بالانضمام إلى منهج الغرب في أفغانستان حتى يحقق الغرب أغراضه التي تتجاوز أفغانستان برضا الشعب الأفغاني وقواه السياسية، وأن يوجه الغرب تكاليف الحرب لتنمية أفغانستان. أي أن تتغاضى «طالبان» عن طلب الاستقلال مقابل العطاء الغربي للشعب الأفغاني، بل وتصبح «طالبان» نفسها هي الحكومة الشرعية التي يباركها الغرب، كما حدث في الصومال مع الفارق. أما القراءة الثالثة التي يقدمها المراقب الخارجي، فهي أن الصراع في أفغانستان صراع عالمي لا يجوز اختزاله إلى صراع بين مستعمر أجنبي وحركة تحرر وطني، لأن الولاياتالمتحدة تورطت مثلما تورط السوفيات كما أنها تتورط في آسيا للمرة الثانية بعد فيتنام، في وقت تتراجع القوة الأميركية بشكل متزايد وملحوظ وتترك فيه مساحات واسعة لأقطاب جدد يظهرون في آسيا. ولذلك فنحن نشكك في أن الغرب يواجه «طالبان» وحدها، كما أن الطبيعة القاسية تتعاطف مع طلاب الحرية، كما تعاطفت من قبل في دفن الامبراطورية البريطانية ثم السوفياتية، فهل تدفن الامبراطورية الأميركية بعد أفغانستان؟ * كاتب مصري.