ركّزت وسائل الإعلام اهتمامها هذا الأسبوع، على تفسير الظهور المفاجئ لمرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي، على متن المدمرة «جمران». ووزعت وكالات الأنباء صورته وهو يستمع الى شرح القبطان خلال الاحتفال بتدشين مدمرة إيرانية الصنع. وكان من المتوقع أن يتولى الرئيس المدني محمود أحمدي نجاد، هذه المهمة التي أُنيطت به منذ عام 2005، خصوصاً أثناء عرض الأنظمة العسكرية المتطورة مثل الصاروخ «شهاب – 3» الذي يصل مداه الى ألفي كلم، أي أبعد من المسافة التي تفصل طهران عن تل أبيب. وبما أن ظهور خامنئي كان يقتصر على الأعياد الوطنية والاحتفالات الشعبية، فإن مشاركته العسكريين في تدشين المدمرة «جمران» أثارت اهتمام الإعلاميين والسياسيين معاً. التفسير المنطقي الذي تبناه عدد من المحللين، قدم تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون كدليل على استفزاز الملالي والتشكيك بقدرتهم على ضبط الشارع الغاضب. ففي لقائها مع الجامعيين في الدوحة، قالت هيلاري: إن بلادها لا تنوي ضرب إيران، وإنما هي عازمة على توحيد المجتمع الدولي بهدف ممارسة ضغوط على إيران تؤثر في شكل مباشر في شركات يملكها الحرس الثوري. وقالت أيضاً في هذا السياق: إن هناك قوة بديلة تتعاظم لتحل محل الحكومة ورئيس الجمهورية والمرشد الأعلى والبرلمان. إنها قوة الحرس الثوري الذي حوّل إيران الى ديكتاتورية عسكرية، وإلى سلطة جديدة مسؤولة حتى عن البرنامج النووي. وكل تغيير نتوقعه في هذا الشأن يعتمد على القيادة الدينية –السياسية، وعلى قدرتها على إثبات موقعها المتفوق. لهذه الأسباب وسواها يرى بعض المحللين أن المرشد الأعلى خامنئي اضطر الى المشاركة في تدشين المدمرة «جمران» لإثبات سلطة الملالي على المؤسسات السياسية والعسكرية بما فيها مؤسسة «الحرس الثوري». ولكن الرؤية الأميركية للوضع الإيراني الداخلي حملت الكثير من التساؤلات حول حقيقة ما ذكرته هيلاري كلينتون، وما إذا كانت نتائج التظاهرات قد أفرزت قوى جديدة تابعة للحرس الثوري؟! هناك شبه إجماع لدى الأكاديميين والمنظّرين السياسيين بأن ثورة الخميني بدلت وجه إيران، وبأن مضاعفاتها الاجتماعية وضعت 70 مليون نسمة في حال استنفار دائمة. أي أنه منذ أكثر من ثلاثين سنة لم تهدأ هذه الثورة ولم تستقر على وضع معين ينبئ بأنها توصلت الى تحقيق أهدافها. وهي أهداف صعبة تدعو الى بناء نظام ثنائي لا مثيل له في التاريخ. وهو في جوهره يستند الى ركيزتين للقوة: الأولى، حزبية – سياسية. والثانية، دينية – تطهيرية أقرب ما تكون الى الجماعات المتزمتة التي حكمت طقوسها انكلترا ونيوإنغلند في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبين هاتين المنظومتين قام حراس الثورة الدينية من جهة وأعضاء الحزب الحاكم من جهة أخرى، بتقاسم أملاك الدولة ومؤسساتها. وبسبب مصادرة كل المصانع المنتجة، فإن الدخل الأساسي من النفط والمقدر بسبعين بليون دولار في السنة، لم يعد كافياً لإطلاق حركة الإنماء والإعمار. وكل ما يخشاه النظام حالياً هو وضع عقوبات صارمة تؤدي الى شلل قطاع النفط. وبسبب هذه العقوبات قد تتقلص الخدمات الاجتماعية والصحية وتهبط مداخيل النفط، ويتعرض ميزان المدفوعات لعجز يمنع إيران من تمويل حلفائها في العراق ولبنان والبحرين وغزة واليمن والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. الإدارة الأميركية تدعي أن ركيزة النظام الدينية أصبحت رهينة الحرس الثوري. وهي مقتنعة بأن قادة «الباسيج» انتزعوا السلطة من الملالي بعد تظاهرات الاحتجاج في عيد الثورة، خصوصاً بعدما لجأ النظام الى الأجهزة الأمنية الممثلة بالحرس الثوري، لحماية نفسه من المعارضة. والحق، ان الحرس الثوري أصبح قوة مؤثرة وفعالة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وقد أُنشئ عام 1979 بهدف حماية مبادئ الثورة من المخاطر الداخلية والخارجية. وبسبب هذه المهمة الأمنية، أخضعه علي خامنئي لسلطته المباشرة. يقول المتتبعون لتطور الأحداث في إيران، إن الحرس الثوري بدأ نشاطه بالإشراف على الأمن الداخلي. ولما اندلعت الحرب مع العراق، تحول الى وحدات مقاتلة على الجبهة. وعندما انتهت الحرب حاول مهدي بازركان حل كل الميليشيات ودمجها في قوات الجيش والشرطة، ثم عين آية الله لاهوتي مشرفاً عاماً على عملية الدمج. وقبل أن يباشر مهمته صدر أمر من الخميني بضرورة معاملته في شكل مستقل. وكان هذا القرار بمثابة مكافأة لأن فرق الحرس الثوري لعبت دوراً مهماً في استقرار النظام الإسلامي والتصدي لأعدائه في الداخل والخارج. وفي عام 1987 أمر الخميني بحل «الحزب الجمهوري الإسلامي» ومنظمة «مجاهدي الثورة الإسلامية»، معلناً الحرس الثوري الجيش العقائدي للنظام. وتشرف قيادة الحرس على ميليشيات «الباسيج». وهي شرطة أُوكلت إليها مهمة تطبيق المعايير الإسلامية باعتبارها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ومع أن فرق الحرس الثوري (عددها 125 ألف مقاتل) هي أقل من عدد الجيش النظامي المؤلف من 350 ألف جندي إلا أن نفوذ الأولى يبقى أعمق تأثيراً بسبب ارتباطه التنفيذي والشرعي بالمرشد علي خامنئي. والملاحظ أن قوات الحرس ازدادت غنى وسيطرة بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً عام 2005. ذلك أنه اختار في حكومته الأولى 12 وزيراً من أصل 21، لأنهم كانوا ينتمون الى «حرس الثورة» مثله. وأُشيع يوم كان أحمدي نجاد رئيساً لبلدية طهران، أنه منح شركات تملكها قيادة الحرس، سلسلة مشاريع من دون استدراج عقود. ولكنهم حالياً يمولون عملياتهم، ويدفعون أجور محازبيهم، من أرباح عشرات المشاريع المخصصة لهم. وفي تقدير الديبلوماسيين العرب والأجانب في طهران، فإن نفوذ «الحرس الثوري» لم يصل بعد الى مستوى الوصف الذي أعطته الوزيرة الأميركية كلينتون، خصوصاً أن اشتباكاتهم العنيفة مع المتظاهرين، أفقدتهم عطف الشارع الذي ساندهم وأيدهم طوال فترة تأسيس الجمهورية الإسلامية. وربما تراهن الدول الغربية على تقوية دورهم في حال ازداد الحصار الاقتصادي على إيران ونجحت الولاياتالمتحدة في فرض عقوبات قاسية. ويرى المراقبون في الأممالمتحدة أن واشنطن تفضل ألف مرة قيام نظام عسكري ديكتاتوري في إيران على بقاء النظام القائم الذي بدّل صورة الشرق الأوسط وسمح للحركات المتطرفة بأن تنمو وتزدهر. وكان من نتيجة ثورة 1979 أن تعاظم نفوذ هذه الحركات، وضعف نفوذ الحكومات، الأمر الذي دفع بعضها الى المساومة والاسترضاء كما في باكستان واليمن. وتشير معاهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن الى المكاسب السياسية التي حصلت عليها سورية أولاً وإيران ثانياً، من وراء انتشار منظمات مرتبطة بهاتين الدولتين، وقيل إن قرار تعيين السفير الأميركي روبرت فورد في دمشق بعد قطيعة استمرت خمس سنوات، كان بهدف احتواء موجة التطرف التي فشلت في تطويعها القوى الكبرى. من المؤكد أن تدافع الوفود الأميركية الى سورية، أثار حفيظة إيران التي تعتمد على حليفتها في تنسيق أدوار الكر والفرّ. لذلك جاء الرئيس أحمدي نجاد الى دمشق كي يثبت للوزيرة كلينتون أن ما طلبته من سورية لن يتحقق. وكانت كلينتون قد أبلغت الكونغرس أن واشنطن طلبت من سورية البدء في الابتعاد عن إيران والمزيد من التعاون حول العراق ووقف نقل السلاح الى «حزب الله»، كما وصفت إيران بأنها دولة مثيرة للاضطرابات في المنطقة. في الرد على «شروط» كلينتون، وقعت سورية مع إيران اتفاقاً لإلغاء التأشيرات بين البلدين. أي أن الدولتين وسعتا مساحة الاتحاد الإقليمي الذي دشنته سورية مع تركيا. ولم يكن في كلام الرئيسين أي موقف سياسي، يستدعي الوقوف عنده سوى هذه العبارة: «على رغم المرونة الإيرانية الملحوظة خلال الشهرين الأخيرين تجاه الملف النووي، فإن الاستعمار الجديد في المنطقة يمنع دولة مستقلة، وعضواً في الأممالمتحدة، وموقعة على اتفاقية منع انتشار أسلحة الدمار الشامل... هذه الدولة تسعى الى امتلاك الطاقة النووية السلمية بموجب تلك الاتفاقيات». وزاد الرئيس الأسد موضحاً: «ما سيطبق على إيران سيطبق على كل الدول الأخرى لاحقاً. إن موقفنا في سورية ينطلق من فهمنا لهذا الموضوع ومن مبادئنا. ولكن أيضاً من مصالحنا كدولة نعتقد بأنها ستسعى ككل الدول الأخرى في المستقبل الى امتلاك الطاقة السلمية». الدول المعنية بهذا الموضوع – مثل روسيا والصين – فسرت هذا الكلام بأنه تعهد سوري بأن إيران ملتزمة موقفها الرسمي السابق، وبأن طهران ترفض اتهامات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومثل هذا الموقف أعلنه قبل فترة مرشد الجمهورية علي خامنئي عندما قال: «إن بعض المسؤولين الأميركيين والغربيين، كرر في الآونة الأخيرة تصريحات سخيفة تفيد بأن إيران تسعى الى صنع قنبلة نووية. إن هذه الاتهامات عارية عن الصحة لأن معتقداتنا الدينية تمنعنا من استخدام أسلحة مماثلة. نحن لا نؤمن إطلاقاً بالسلاح الذري ولا نسعى الى امتلاكه». جاء تصريح خامنئي خلال رعايته تدشين مدمرة «جمران». وهي الأولى من إنتاج محلي، وسُلمت للبحرية الإيرانية في ميناء بندر عباس عند مضيق هرمز. وعندما يعلن المرشد الأعلى عن نيته امتلاك طاقة سلمية من فوق مدمرة حربية، إنما يدعو الى الحفاظ على النظام الذي أؤتمن عليه، لإيمانه بأن بقاء النظام هو أهم من امتلاك القنبلة وخسارة النظام! * كاتب وصحافي لبناني