النظافة في الإسلام فريضة وليست ترفاً، ولئن رأيتَ النظافةَ قيمةً حضارية تتباهى بها الدول المتقدمة اليوم، فإنما هي في غالبها معتبرةٌ عندهم بمستواها المدني البيئي، أما نظافة الإنسان في نفسه فأمرٌ خاضع لذوقه الشخصي تحميه فلسفة الحرية الفردية المقدسة، فله أن يأخذ منها بقدر ما يقنعه، ويهمل منها ما يعارض مزاجه ونزعتَه، فَلَهُ أنْ يُطيلَ أظفارَه ويعفيَ شاربَه ويطيلَ ما شاء من شعور بدنه. لكنها في حضارة الإسلام أشملُ وأدقُ وأوفى؛ لأنه جمعَ للنظافة جميع أسبابها وألمَّ بأطرافها، فاعتنى بالنظافتين: نظافةِ الفرد في نفسه، ونظافة المجتمع في مُدنِه وبيئته، ولم يَدَعْ للفرد خِياراً أن يُبقي ما تقتضي النظافةُ إزالتَه، أو يهملَ ما تقتضي النظافةُ معالجتَه وتعاهدَه؛ حتى لا تصبح غضون جسده وشعوره مَباءَةً للأوساخ، «الفطرة خمس: الختان وحلق العانة وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط» والفطرة المرادة هنا هي السنة القديمة التي أمر بها الأنبياء وفُطروا عليها. ذاك ما كان من بعض عناية الإسلام بنظافة المسلم في نفسه، وأما نظافته في مجتمعه وبيئته فللإسلام في ذلك عنايته المشهودة وتوجيهاتُه المشهورة، فهو يأمر أن تمتد النظافة من أشخاص المسلمين إلى بيوتهم ومجامعهم وطرقهم ومواردهم. إن الاعتناءَ بالنظافة العامة سُنةٌ إسلاميةٌ ميتةٌ بين أهلها إلا من رحم الله، مع أن الأحاديث في هذا ثابتةٌ مشهورة، فقد نهى أن يُبال في الماء الراكد الذي لا يجري، وقال: «اتقوا الملاعن الثلاثة: «البَرَازَ في الموارد أي المياه التي يردها الناس ، وقارعةِ الطريق، والظل». وفي الحديث الآخر «البُصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها». وقال: «إماطة الأذى عن الطريق صدقة»، وإذا كانت الإماطة صدقةً فإن رمي الأذى في طريق الناس ومواردهم خطيئة. إن الإسلام لا يرضى لأتباعه أن يعيشوا هملاً مسلوبي الحقوق مُهاني الكرامة يرتادون الأوساخ ويتأذون بالقاذورات، وفي مجتمعنا صور كريهةٌ في هذا الباب، منها صورة كثرت مشاهدتها هذه الإيام حيث خروج الناس للرياض والمتنزهات. وكم وجدنا من آثار كريهة لمن استمتع بهذه الرياض والمتنزهات، قد يتركها كأوسخ ما تكون؛ كأنما يريد ألا يستمتع بها أحدٌ بعده. ومن العجب أن يتحرج بعضهم أن يصلي وفي ثوبه نجاسةٌ يسيرة، ثم لا يتحرج أن يرمي بنجاسات أطفاله وقمامات مخلفاته في ظل الناس ومواردهم مع ورود الوعيد الشديد في ذلك!. فأيُّ أثرةٍ هذه؟! وأي ثقافة هذه التي تجعل الناسَ يستمتعون بلا تحفظ، ولا مسؤوليةٍ في المحافظة. ربما وجدتَ بعضَ هؤلاء الملوثين المتخمين بالأثرة والأنانية من ديدنُه الثناءُ على حضارات الأمم الأخرى ورقيهم ونظافتهم، ثم لا نجده ممتثلاً أوامرَ دينه في هذا الشأن بخاصة! عندما ترى النظافة ثقافةً مغيَّبةً في تربية كثير من الآباء والأمهات لأولادهم تدرك حينها أنَّ كثيراً من المسلمين لا يزالون يرون الإسلام في دائرة ضيقة لا تتجاوز حدود العبادات وشيءٍ من فرائض الأخلاق. حين ندعوا الناس إلى إحياء سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيجب أن تعم الدعوة هذه الثقافةَ الإسلامية الحضارية التي جعلت النظافة باباً من أبوابها، ومعلماً من معالمها، فهذا من إحياء سنة النبي، وكما يتقرب المسلم إلى الله بنوافل العباداتِ، فليتقرب إليه بنظافته في نفسه، وفي بيته، وفي مجتمع الناس بعامة، داخل المدن أو في الرياض والمتنزهات؛ فهذا من التجمل الذي يحبه الله، والتقرب إلى الله بما يحبّه عبادةٌ. أكاديمي في الشريعة. [email protected]