أثار انتباهي واستغرابي، في آن معاً، أن تصريح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قبل أيام عن استعداد بلاده لإرسال «يورانيوم» إلى الخارج لتخصيبه، سرعان ما تبعه تصريح لوزير خارجيته منو شهر متكي طمأن فيه العالم إلى اتفاق وشيك على صفقة بين طهران والقوى العظمى، يقضي بأن تتولى هذه الدول تخصيب اليورانيوم وإعادته إلى إيران لتشغيل مفاعلاتها النووية، لكن مدير المنظمة الدولية للطاقة الذرية صدم العالم بإعلانه أن المنظمة لم تتلق أي عرض من إيران بهذا الشأن. وسارعت القوى الكبرى إلى التلويح بسيف تشديد العقوبات ما دامت طهران متمسكة بعنادها. وقام نجاد بتفجير قنبلته «الوهمية» بإعلانه أنه أمر بتخصيب اليورانيوم محلياً بنسبة «20 في المئة» ما دام الغرب غير متفاعل مع طروحات بلاده. تنبهت واستغربت... جميع أرباب «السوابق» في «الإسلام السياسي» يحرمون على الآخرين الكذب ويحلونه لأنفسهم، إنه عين ما يحدث في السودان، و«الإمارة الإخوانية» في غزة، ومستوطنة الحرس الثوري الإيراني التي تهدد لبنان تحت راية «سلاح المقاومة»، ولعل إيران كان لها تأثير استراتيجي أشد عمقاً في نفوس الزعامات العربية التي سعت إلى تقليدها ب «تسييس الدين». في السودان، إذ كان للحرس الثوري دور في حرب الجهاد الحكومي على متمردي الجنوب وتدريب عناصر جهاز «الأمن والمخابرات»، يكذبون ويتجملون ولا يلوون على شيء، ويسمون ذلك الكذب «تقيّة»، وهي من المفردات الإيرانية التي دخلت قاموس النظام السياسي في إمارات الجماعات الإسلامية التي انتهت بها مسارات الفكر الإخواني إلى الولوغ من تبريرات الخميني ومعالجات خامينئي وكتابات أنصار ثورة 1979 التي تُوسم ب «الإسلامية». وأضحى عدم قول الحقيقة سمة النظام «الإسلامي» السوداني منذ اليوم الأول لاستيلائه على السلطة في عام 1989، إذ دَارَى هويته بإنكار صلته بالجبهة الإسلامية المنحدرة من فكر الإخوان المسلمين، وبدأ بعد ذلك ينغمس في لعبة تقسيم الصفوف وتشتيت إرادة الخصوم، فأذكى نار «الجهاد» في الجنوب، بدعوى خطر داهم يتهدد «إسلام الأمة»، ونقل شرارة الحرب إلى الشرق، ثم الغرب، حتى أرغمه الغرب على تسوية «مهينة» مع الجنوبيين انتهت بمنحهم حق تقرير مصيرهم، حتى لو أسفر ذلك عن تقسيم البلاد. وفي غزة، إذ توجد إمارة إخوانية يتزعمها كواجهة إسماعيل هنية، ويديرها من دمشقوطهران «الطاووس» خالد مشعل، الذي اعترف لبرنامج «القاهرة اليوم» بأنه حصل على ملايين الدولارات من إيران، تطور «مصنع الكذب» الإخواني إلى حد قلب الباطل ليبدو حقيقة أمام الشعب الذي يتفرج على الخلفاء غير الراشدين وهم يعتصرون «كعكة» السلطة في هذه الرقعة الضيقة المغلقة، فأضحوا يعيرون السلطة الفلسطينية بأنها «الانقلابية» وليسوا هم، ويطلقون النار على حراس الحدود المصريين، وتقطر من أفواههم كلمات التقدير لمصر وشعبها ودورها، وينفذون تعليمات نجاد ومستشاريه، ويقسمون اليمين على أن إرادتهم بيدهم وليست بيد طهران. وفي إمارة الحرس الثوري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا صوت يُعلى عليه سوى صوت حسن نصرالله وتهديداته التي لا تنقطع لإسرائيل ومصر وكل عربي يعادي إيران. يتحدثون عن قبولهم فكرة ال «10 + 5» بالنهار، وفي الليل يطالبون بمنحهم «الثلث المعطل». حتى غدا قاموس السياسة اللبنانية متخماً بالمصطلحات التي لم تعهدها أنظمة الحكم الديموقراطية في أي مكان في العالم، أما السلاح فهو عندهم - تعظيماً وترهيباً - «سلاح المقاومة»، في حين هو في حقيقته سلاح إيران لشق الصف اللبناني والهيمنة على العرب من خاصرتهم المشرقية. ويرى هؤلاء «المتجمّلون» أنهم «مجدِّدون» في الفكر الإسلامي، إذ نقلوا إلى الإسلام «المسيّس» نظريات إيرانية من قبيل «ولاية الفقيه»، و«فقه الضرورة» و«التمكين» و«التأصيل» و«التقية»، وتوسعوا في تطبيقها بما يخدم مصالحهم، ونجحوا في بعض تلك البلدان المنكوبة بهيمنتهم وأسلحتهم في اختطاف إرادات شعوبهم، وتضخمت ذوات بعض زعمائهم حتى حسبوا أن «الكاريزما» بوابة إلى فرض زعامتهم على المنطقة والعالم. وتسوّل لهم أنفسهم وأحاديث النفاق التي يلقيها على مسامعهم سمّارهم وندماؤهم أن فرائص الدول الكبرى ترتعد من تهديداتهم ومخططاتهم الجهنمية لتلغيم الأوضاع، ليس في المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم كله. وإذا لم يكن لدى المسلم وازع فهو يحل لنفسه ما حرّم الله على ذاته العليّة، وهو الظلم. ولم يعد «الكذب» عند هؤلاء مشكلة، إذ لديه من فقه «التقية» و«الضرورة» ما يكفيه عناء تعذيب الضمير، حتى أضحوا هم أول من يصدقون كذباتهم، وأول من يعتقدون بأوهام العظمة التي يصطنعونها لأنفسهم، لا يهمهم أن تحترق أوطانهم وشعوبهم ما داموا يرون أنفسهم على الجادة، والآخرون على خطأ وضلال، بما في ذلك القانون الدولي وضرورات التعايش بين الشعوب. الأكثر غرابة أن هؤلاء يعيشون في «جُحور»، لا جرأة لكثيرين منهم على مغادرتها إلى الهواء الطلق، ليلمسوا بأنفسهم حجم المعاناة التي تعيشها شعوبهم بسبب أوهامهم وحماقاتهم ونزواتهم واختطافهم للفكر والدين، واعتقادهم الراسخ بأنهم ظل الله في الأرض. نصر الله يلقي خطاباته من أماكن سرية ويطل على الجماهير عبر الشاشات. والآخر لا يستطيع أن يغامر بالسفر إلا إلى البلدان المحيطة ببلاده. خالد مشعل يدير «الإمارة الإخوانية» من معقل حصين في دمشقوطهران. وإيران تجيد لعبة التسويف والمماطلة والتذاكي في الاجتماعات المغلقة مع مندوبي القوى العظمى، من دون أن تطلق قذيفة واحدة، أو صاروخاً من صواريخها التي لا تكف عن إطلاق تجاربها، على إسرائيل أو على «الشيطان الأكبر» الذي تقتسم معه العراق، وليست هي بحاجة إلى ضربه في قمقمه وراء المحيطات. * صحافي من أسرة «الحياة».