يتعلق السؤال هنا بتجربة حزب سياسي في الشرق الأقصى، وتحديداً اليابان، وهو الحزب الليبرالي الديموقراطي الذي تأسس عام 1955 واستمر في الحكم منفرداً أو كقائد لائتلاف حاكم حتى انتخابات 30 آب (أغسطس) 2009 الخاصة بمجلس النواب (الغرفة الأدنى من البرلمان)، باستثناء فترة وجيزة خلال عامي 1993 و1994. وحتى خلال تلك الفترة الوجيزة، كان الحزب يملك أكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب من دون أن يحوز على غالبية المقاعد. وقد تأسس الحزب الليبرالي الديموقراطي ليمثل تجمعاً للقوى الفكرية والسياسية المنحازة للخيار الليبرالي الديموقراطي الغربي والنموذج الرأسمالي وتعزيز التحالف الياباني مع الولاياتالمتحدة، أمنياً واقتصادياً، والعداء للشيوعية كأيديولوجية وكمعسكر سياسي، وكان المقصود من تأسيسه أن يمثل المنافس الرئيسي للحزب الاشتراكي الياباني الذي كان يجسد حينذاك قيم التخطيط المركزي ونزع السلاح الدائم والتام لليابان وتفكيك التحالف مع الولاياتالمتحدة. وتمحور برنامج الحزب الليبرالي الديموقراطي حول القيم المذكورة آنفاً، واستمر هذا البرنامج قائماً حتى الآن. وفى انتخابات 2009 النيابية، كان المشهد السياسي قد تغير كثيراً، فغالبية القوى السياسية باتت منحازة لمفاهيم الديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، بما فيها الحزب الديموقراطي الياباني الذي فاز بالأغلبية في تلك الانتخابات. وقد عاب كثيرون على الحزب الليبرالي الديموقراطي أنه كان تجب عليه مراجعة برنامجه الفكري والسياسي عقب سقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة، بهدف إعادة تعريف دوره بعد انتفاء الخطر السوفياتي، إلا أن الحزب لم يقم حينذاك بهذا الجهد، مكتفياً بأنه «حزب الحكومة»، ومستريحاً إلى نجاحه في تشكيل حكومات أغلبية بمفرده ثم لاحقاً حكومات ائتلافية كان يقودها منذ 1994 وحتى انتخابات 2009 الأخيرة. وحتى عندما خسر الحزب الأغلبية في انتخابات التجديد النصفي لمجلس المستشارين (الغرفة الأعلى من البرلمان) صيف 2007، فإنه لم يلتفت إلى أن ذلك كان بمثابة جرس إنذار له، واستمر في مسيرته المعتادة، على رغم أصوات بدأت تظهر بداخله، بخاصة من جيل الشباب، تدعو لبعث شباب الحزب عبر ضخ دماء جديدة في صفوف قيادته على أن يتزامن ذلك مع مراجعة أيديولوجية الحزب وبرنامجه لتتأقلم مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية. الأمر الثاني الذي لم ينجح الحزب الليبرالي الديموقراطي في تجاوزه كان وجود عدد من الفصائل في داخله وفاقت قوة قادتها قوة قيادة الحزب. وكان الاستثناء الوحيد فترة رئاسة كويزومي للحزب والحكومة من 2001 إلى 2006، حيث سعى بقوة لتفكيك نظام الفصائل داخل الحزب، وبدا أنه نجح في ذلك، إلا أنه ما لبث أن عادت الفصائل بقوة فور تنحي كويزومي، وعاد معها بروز ضعف قيادة الحزب وظهور قوة الفصائل. وبعد انتخابات 2009، وجد الحزب الليبرالي الديموقراطي فجأة أنه صار حزب المعارضة وليس حزب الحكومة كما تعود في السابق. وداخل الحزب عاد تيار الشباب للظهور مجدداً مطالباً بقوة هذه المرة بمراجعة برنامج الحزب وأيديولوجيته، بهدف التحضير لعودة الحزب للحكم مستقبلاً. ويرى أتباع هذا التيار الداعي إلى التغيير داخل الحزب إلى تبني خيار الانحياز لتعزيز التحالف الياباني الأميركي، وفي الوقت نفسه يسعى للإعلاء من القيم التقليدية اليابانية ثقافياً واجتماعياً، كما ينحاز هذا التيار لحكومة أصغر، وبالتالي بيروقراطية أصغر، وما يترتب على ذلك من موازنة أقل وضرائب أقل، ويدعو أيضاً إلى تدخل أقل للدولة في الاقتصاد وآليات السوق والمزيد من التحول نحو خصخصة القطاع العام، أسوة بما حدث خلال سنوات حكم كويزومي، وكذلك المزيد من انفتاح الاقتصاد على الاقتصاد العالمي، ومراجعة أحجام الدعم المقدم لقطاعات مختلفة من الشعب بهدف ترشيدها وليس إلغائها كلية نظراً لأهميتها البالغة. ويقر أتباع هذا التيار بأن من شأن هذه التوجهات زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ولكن يرون بالمقابل أن ما يدعون إليه سيؤدي إلى تحسن عام في الحالة الاقتصادية وسينتج من ذلك تحسن في أوضاع الفقراء والأغنياء على حد سواء. ويعتبر أصحاب هذا الطرح أن الحزب الليبرالي الديموقراطي سيكون، في حالة تبنيه هذه الأفكار، حزباً لليمين الياباني، وسيكون موقعه أيديولوجياً وسياسياً في مكان ما في يمين الوسط، متشابهاً فكرياً وسياسياً مع الحزب الجمهوري الأميركي وحزب المحافظين البريطاني. كما يدعون لإطلاق حوار داخل الحزب الليبرالي الديموقراطي على كافة المستويات لضمان أن يتحقق التحول في أيديولوجية وبرنامج الحزب في شكل ديموقراطي، وليتم ترشيح وجوه شابة لتحل محل وجوه الحزب القديمة التي يحملونها مسؤولية الهزيمة في انتخابات 2009، بحيث يرتبط تغيير الوجوه بتغيير السياسات، على أن يتزامن مع ذلك الترويج لرؤية الحزب الجديدة. ويرى أصحاب هذا التوجه أن هزيمة انتخابات 2009 كانت لها فائدة للحزب، حيث خلصته من ضغوط جماعات المصالح الكثيرة. وعلى الصعيد الخارجي، يرى هذا التيار ضرورة مراجعة المادة التاسعة من الدستور لتعريف دور الجيش الياباني المعروف باسم «قوات الدفاع الذاتي» وبيان إمكانية مشاركتها في عمليات حفظ سلام دولية بدلاً من الصياغة الحالية التي يعتبرها هذا التيار مفتوحة لتفسيرات متباينة. كما يطرح هذا التيار تساؤلات حول خريطة التحالفات السياسية للحزب مع أحزاب أخرى مستقبلاً في ضوء تجربة تحالفه لمدة عقد كامل قبل هزيمته في انتخابات 2009 مع حزب «نيوكوميتو» البوذي. ولكن علينا أن ندرك أنه داخل الحزب الليبرالي الديموقراطي، ما زال هناك من يرى أن يبقى الحزب كما كان منذ إنشائه، باستثناء فترة كويزومي، أي «حزب لكل اليابانيين، أو على الأقل يسعى ليكون كذلك، من خلال تبنيه لمطالب لمختلف الفئات الاجتماعية، وبالتالي يتمسك هؤلاء بدور كبير للدولة في الاقتصاد والمجتمع والثقافة. كذلك يوجد داخل صفوف الحزب القوميون التقليديون اليمينيون الذين يركزون على السعي لإعادة كتابة تاريخ اليابان وتدريسه للأجيال الجديدة بما ينفي عن اليابان اللوم في شأن حروب آسيا التي سبقت ثم تزامنت مع الحرب العالمية الثانية، وعن الحرب الثانية ذاتها، ويصرون على زيارة ضريح ياسوكوني الذي يحتوي على رفات من حوكموا باعتبارهم مجرمي حرب يابانيين عقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، وهي زيارات تثير حفيظة الصين وكوريا في شكل خاص. ويبقى التساؤل مفتوحاً على كل الاحتمالات في المستقبل: هل سيستطيع الحزب الليبرالي الديموقراطي العودة للحكم مجدداً؟ ومتى؟ وتحت أي ظروف؟ وفي أي صورة؟. * كاتب مصري.